بين أَسوإِ ما يطالعنا في هذا الزمن اللبناني المختلِط فيه كلُّ ما فيه: الدمجُ بين الدولة والوطن. ومنه قول بعض السياسيين: “لبنان وطنٌ صغير”. هذا تجديف على ماهية لبنان. فالوطن هو شعبُه وتراثُه على أَرضه وفي العالم وليس محصورًا في حدوده الجغرافية. والدولة هي السُلطة الممتدة على أَرض لبنان لا شبر واحدًا خارجها. من هنا أَن لبنان “دولة صغيرة” وليس وطنًا صغيرًا، وهذا لا يضيره لأَن في العالم دُوَلًا كثيرة ضئيلة الحدود، بينما لبنان الوطن لا حدود له لأَن اللبنانيين في العالم ساطعون تحت كل سماء من دول العالم.
من هذا الخلْط أَيضًا: الدمجُ بين الهُوية والمواطنية. هذه إِهانةٌ للهُوية واستهانةٌ بالمواطنية. الهُوية هي إِرثُ الوطن، تحمله الأَجيال حقبة بعد حقبة، ولا تعني سوى أَهل الوطن على أَرضه وفي العالم. المواطنية هي حمْل تذكرة الهُوية (لا الهُوية) وتاليًا جواز السفر، يحملهما المواطن اللبناني وأَيُّ مجنَّس في لبنان تمنحه الدولة الجنسية اللبنانية. وفي كليهما (بطاقة الهوية وجواز السفر) تتماهى المواطنية والجنسية، ولا تَرقَيان إِلى شرَف الهُوية.
للُّبنانيِّ أَن يتحلَّى بالوفاء لهُويته والولاء للأَرزة (رمزيًا وإِيمانيًّا) على بطاقة هويته وجواز سفره، وما يستَتْبعه هذا الولاء من احترامه تراثَ هذه الهُوية التي تشكَّلت جيلًا بعد جيل لتكوِّن الإِرث اللبناني. وهي هُوية انتمائية وجدانية يحملها اللبناني معه أَنَّى اتجه وأَيًّا تكن جنسية أُخرى يكتسبها. الهُوية انتماءٌ داخليّ يولد معنا ونحمله فينا طوال العمر، والجنسية الأُخرى اكتسابٌ خارجي نناله في أَيِّ وقت من العمر.
لغيرِ اللبنانيِّ، إِذ يحمل الجنسية اللبنانية، أَن يتحلَّى بالوفاء لها واحترام قوانينها ودستورها ونظامها، دون الولاء لها لأَنه ليس ابنَ هُويتها الحضارية. ولبنان منَحَ كثيرين الجنسية اللبنانية بمرسوم جمهوري، وظَلَّ انتماؤُهم (وهذا طبيعي) لهويتهم الأَصلية في بلدانهم الأَصلية. وكذا لبنانيون كثيرون في العالم نالوا جنسية أُخرى من دول عاشوا فيها وكَنُّوا لها الوفاء إِنما ظلُّوا على ولاء لهُويتهم الأُم وأَرضهم الأُم وانتمائهم إِلى وطنهم الأَول. إِنهم أَبناء الدولة اللبنانية على أَرضها وأَبناء الوطن اللبناني على كل أَرض في العالم.
الانتماء! وصلتُ إِلى المفتاح الرئيس. ابنُ الهُوية الحضارية هو ابنُ الانتماء. ابنُ بطاقة الهُوية فقط هو ابنُ الانتماء إِلى بلاده.
من هذا المفتاح أَصِل إِلى مأْساة يئِنُّ منها اليوم لبنان: الهِجرة القسرية بسبب مَن يتولَّون السُلطة ولا يحسنون قيادة الدولة حتى أَخذ لبنانيون كثيرون يهُجُّون إِلى ديار الدنيا مستقيلين من السُلطة/الدولة لا من الوطن/الهُوية بل يَـحملونه في قلوبهم وذكرياتهم ووجدانهم اللبناني الذي لا يمحوه بُعادٌ مهما نأَى، ولا تلغيه هِجرة مهما طالت. والغاضبون منهم على مسبِّبي هجرتهم، غضبُهُم هو على أَهل السُلطة ساسةِ الدولة لا على ما للوطن في وجدانهم من تعلُّق. ينفصلون عن الدولة ولا ينفصمون عن الوطن.
أَختم عن الخلْط بين الدولة والوطن: الدولة عابرة متغيرة بتغيُّر أَركان سُلْطتها. الوطن باقٍ ثابتٌ مهما تغيرت مفاصل الدولة، لأَنه حصيلة أَجيال من نقْش الحضارة والإِبداع وآثار أَعلامه في ذاكرة التاريخ التي لا يشوبها تَغَيُّر.
الهوية واجب وانتماء. بطاقة الهُوية واجبات وحقوق. المواطنية وحدها ليست الهُوية.
اللبناني الأَصيل علامتُه الانتماء إِلى هُويته، مقيمًا هنا على أَرضه الأُم، أَو مهاجرًا إِلى أَيِّ أَرضٍ حاملًا في وجدانه إِرث لبنانه اللبناني.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib