في حلقة الأَحد الماضي ميَّزْتُ بين تعبيرَي “الاغتراب” و”الانتشار” وشرحتُ أَنَّ كليهما مغلوط لأَن اللبنانيين ليسوا “مغتربين” كاغتراب الغرباء النازحين، ولا “منتشرين” كانتشار قطعان الإِبل كيفما اتَّفَق، بل الأَصح لهم تعبير “الهِجرة” لأَن اللبنانيين مهاجرون مهما طالت هِجرتهم، ومن هنا التعابير السائدة في العالم “دائرة الهِجرة” و”وزارة الهِجرة” و”معاملات الهِجرة”.
أَصِل اليوم إِلى التمييز في تعبير مغلوط آخَر يستعمله الكثيرون، وخصوصًا السياسيون، هو “الدياسپورا”.
أَبدأُ بالجزم: ليس من دياسپورا لبنانية، ولا توجد ولن توجد يومًا دياسپورا لبنانية. اللبنانيون وسْع العالم ليسوا أَبدًا في الدياسپورا ولن يكونوا.
كيف؟ أَشرح: أَفْضَلُ ما وجدْتُهُ يختصر الموضوع، تحديدُ الباحثة الفرنسية كريستين شيڤايُّون (رئيسة قسم الجغرافيا والأَنتروپولوجيا في المجلس الوطني الفرنسي للأَبحاث العلمية) في كتابها الصادر عن المركز “الدياسپورا السوداء في الأَميركَتَين” (2004). وهي خلُصَت إِلى التحديد التالي: “الدياسپورا هي تشريدُ شعبٍ من أَرضه الأَصلية، وحرمانُهُ من العودة إِليها. وهي عملية سياسية واجتماعية تتمثَّل بحمْل قبائلَ أَو شعوبٍ على الانتقال من مَوَاطنهم إِلى أَماكنَ بعيدةٍ، وإِسكانِهِم في مناطقَ ضمن دُوَلٍ يخضعون لسيادتها”.
أَصل كلمة “دياسپورا” يوناني قديم، تعني التَشَتُّت والضَياع قبائلَ وأَفرادًا مشرَّدين في كل اتجاه وما عاد لهم وَطَن. وفي لغات أُخرى تعني “المنفى”. فهل هذا وضْع اللبنانيين في العالم؟ هل هم مُشَتَّتون ضَياعًا ومنفيُّون تشرُّدًا خارج وطنهم وما عاد لهم وطَن؟
وفي تحديداتٍ شائعة أُخرى أَنها تعني “شعوبًا متفرقةً في الشَتات ضاعت مَواطنُها الأَصلية فلا عودةَ لهم إِليها”. هل هذا وضْعُ اللبنانيين في العالم؟ هل ضاعت أَرضُهم الأَصلية؟ هل شُرِّدوا من أَرضهم الأُمّ وهم محرومون من العودة إِليها؟ هل يَنطبق هذا التوصيف على اللبنانيين المهاجرين في جميع بقاع الأَرض ولا أَرضَ لهم بَعدُ في مَوطنهم الأَصلي؟
في استعمالٍ حديث اتَّخذ المصطلَح معنى “هِجرة عريضة لأَيِّ شعبٍ تَشَرَّدَ لاجئًا لدى شعوب غريبة أُخرى فبات مسلُوخًا عن ثقافته ولغته وجُذُوره”. فهل هذا هو وضْع اللبنانيين في العالم؟ هل هم فعلًا مُشرَّدون غرباء مُهجَّرون من ثقافتهم اللبنانية ولغَتهم الأُم وجُذُورهم الأَصلية فلا عودةَ لهم إليها؟
ما لديَّ أَنا الجوابُ بل الجوابُ لديهِم: أُولئك الساطعين في كل أَرضٍ وبلاد، مُشْرِقين لدى كلِّ شعب هاجَروا إِليه حاملين ثقافتَهم ولغتَهم وجُذُورَهم، وسطعوا ونجحوا وأَبدعوا وظلُّوا ملْتفتين في كل حين إِلى أَرضهم الأُم التي تضُجُّ بالحياة والخصوبة والبيادر، فلا هي ضائعة، وليسوا هُم مشرَّدين بلا وطن. أَرضُ لبنان الأُم ليست مفقودةً بل موجودةٌ بقُوَّة، وإِنْ مسحوقةٌ حاليًّا بفَسَاد مَن يتحكَّمون بشَعبها في أَسْوَإِ زمنٍ من تاريخها الحديث. لكن الحاكمين المتحكِّمين زائلون مهما طَغَوا وبَغَوا، والأَرضُ الأُمُّ باقيةٌ، والمهاجرون منها حنينٌ دائمٌ إِليها مهما طالت هِجْرتهم. إنها في قلوبهم ووجدانهم أَيقونةُ الرجوع في أَيِّ وقتٍ، عودةَ الأَولاد إِلى حضن أُمٍّ تنتظر عند فتحة الباب.
لهذا قلتُ في بدْء كلامي إِن الدياسپورا اللبنانية ليسَت موجودة، واللبنانيين في العالم ليسُوا في الشَتات مُشَرَّدين، بل مناراتٌ حيثما حلُّوا، يَشعُّ نورُهم في حيثُ هم، في نورِهم دومًا شعاعٌ يَبْلُغ أَرضَهم الأُم، وفي قلبهم دومًا لبنانُ النبع والمصدر والمآل.
بعد كل هذا، أُكرِّر قولي في حزْم وحسْم وجزْم: عبارة “الدياسپورا اللبنانية” إِهانةٌ للُّبنانيين في لبنان وللْحضور اللبناني الساطع في العالم.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib