يجتمِعُون، يتجمَّعُون، أَفكارَهُم النيِّرة يسْتجمِعون، لا يصارحون بل يصرِّحون صراحةً عن اهتمامهم “الصريح” بمَن يسميهم بعضُهم “مغتربين”، وبعضُهم الآخر “منتشرين”، ويهتمُّون بأَصواتهم في الخارج أَو من الخارج أَو إِلى الخارج، وَوُجْهَتهم “الحارَّة”: “الأَعزاءُ” اللبنانيون في العالم.
يتقاسمون الحرْص عليهم: منهم مَن يعتبرهم ثروة لبنانية في العالم، ومنهم من لا يرى فيهم سوى مشتاقين نوستالجيًّا عاطفيًّا رومانسيًّا إِلى “الصفيحة” و”الكبة النية” و”التبولة” و”كاس العرق تحت العريشة”، ويخترعون لهم أَسبابًا وحُجَجًا وصفاتٍ وطنيةً، بينما في أَعماق قلوبهم السوداء ليس اهتمامُهم إِلَّا پوانتاجًا انتخابيًّا لا يعتبر اللبنانيين في العالم سوى أَرقامٍ وأَعدادٍ للَّوائح الانتخابية التي بدأُوا يطبخونها منذ اليوم متجاهلين ذُلَّ الناس وفقْرَهم ورعبَهم من غدٍ أَسْودَ قد لا يبلُغون بعدَه يوم الانتخابات.
فيا هؤُلاءِ المهتمون بحساباتكم الشخصانية: إِنكم ضالُّون مبْنًى ومعنًى.
في المبنى: مَن تعنونهم ليسوا “مغتربين” ولا “منتشرين”. لغةً: “غرَّبَ وتَغَرَّبَ واغتربَ = نَزَحَ عن الوطن فهو نازح ومغترِب ومتغرِّب”، وتاليًا غريب. واللبنانيون في العالم ليسوا “مغتربين” ولا “نازحين” حيثما هم ولا غرباء بل ضالعون في نهضة البلدان التي استقبلَتْهُم. ولغةً أَيضًا: “انتشر الرجُل = ابتدَأَ سَفَرُه”، و”انتشَرَت الإِبْل” = تَفَرَّقَت على غير انضباطٍ واستواء”. واللبنانيون في العالم ليسوا منتشرين كالإِبْل “على غير انضباط واستواء” بل هم مستقرُّون ويُسْهِمون بعقلهم وفكْرهم وإِبداعاتهم في نهضة المجتمعات التي يعملون فيها.
ما هم إِذًا؟ إِنهم، بكل بساطة، “مهاجرون”. ذلك أَنْ لُغَةً: “هاجر = انتقَل من بلَده إِلى بلدٍ آخر”، و”الهُجرة = الخروج من أَرض إِلى أَرض أُخرى”، و”الـمَهجَر = موضِع الهُجرة، جمْعُها مَهاجِر = مَواضِع الهُجرة”. وهذا هو التعبير الأَصح لِلُّبنانيين في العالم. فـ”الهُجرة” ليست “اغترابًا” ولا “انتشارًا”. الهُجرة ظاهرةٌ ديموغرافية عادية. من هنا “هُجرة” النبي العربي الكريم، ومن هنا تقويمُ “السنة الهُجرية”.
كلُّ هذا، يا هؤُلاءِ المهتمون بحساباتكم الشخصانية، هو ضلالُكم في المبنى. أَما ضلالُكم في المعنى فأَوضح: ذلك، بكل بساطة، أَنَّ هؤُلاء الـمُهاجرين مُهاجرون بسبَبِكُم، هاجرون بسبَبِكُم، مُهَجَّرون بسبَبِكم.
لماذا؟ لأَنكم بَنَيْتُم مَزارعَ لكُم ولنَسْلِكُم ولأَزلامِكُم، ولم تَبْنُوا دولةً يعود إِليها الـمُهاجرون من حيث هم في بلدانٍ ذاتِ دولةٍ حازمةٍ بقانون ومؤَسسات.
لماذا؟ لأَنكم هجَّرتُم أَبناءَ لبنان جيلًا بعد جيل بإِدارتكُم دولتَهُم فشَلًا بعد فشَل، حتى كَفَروا بدولتكُم فاستقالوا منها وهَجُّوا، لكنهم لم يستقيلوا من الوطن ولا هجُّوا منه بل أَينما حلُّوا ظلُّوا منتمين إِلى أَرزتِه وعلَمِه يحملون الحنين إِليه في قلوبهم، ولن يعودوا إِليه كي لا يَرَوا وجوهَكُم القميئة، وكي لا يسمعوا زعيقَكُم الأَجوف، وكي لا يزدادوا قَرَفًا من تحكُّمكم بأَهلهم المقيمين هنا المرشَّحين يوميًّا أَن يكونوا مشاريع مُهاجرين.
المهاجرون، يا هؤُلاءِ المهتمون بحساباتكم الشخصانية، ينظرون إِليكُم مِن بعيدِهم، من حيثُما هُم، ويلعنون الساعة التي وصلْتُم فيها إِلى أَن تَهدُموا دولةً تسلَّمْتُمُوها هيكلًا ذا عِماد فَحَوَّلتمُوها دمارًا ذا رَماد.
لذا، هيِّئُوا هنا انتخاباتِكم بحساباتِكم الشخصانية المركنتيلية الدنيئة، وحِلُّوا عن المهاجرين لأَنهم لن يصدِّقوا فذْلكاتكم بستة نواب في القارات، ولا كرمَكُم أَن تتيحوا لهم انتخاب 128 مقعدًا.
اللبنانيون في العالم يعيشون في بلدان منظَّمة منتظِمة نظامية، وينظرون إِلى دولة لبنانهم فيجدونَها حطامًا تَحُوم حَوله وَحَوْلكُم الغربان السود، فيلْعنونَها ويلعَنون مَن حوَّلوا لبنانَهم من بلاد إِلى رماد، فيصرخون بهم وبكُم غاضبين: “حِلُّوا عنَّا”.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib