ماتا على هوية لبنان (2 من 2)
“أَزرار” – الحلقة 1198 – “النهار” – السبت 9 تشرين الأول 2021

           بعد جورج شحادة (“أَزرار” 1197-“نهار” السبت الماضي) وعدَم طلَبِه الجنسيةَ الفرنسية مع كل ما أَعطتْه فْرنسا من مجد عالمي، هوذا اليوم جبران الذي، هو الآخَر، لم يَطلُب الجنسية الأَميركية مع كل ما أَعطتْهُ أَميركا من شُهرة وخلُود.

          في القسم الثاني من كتابي عن جبران “هذا الرجُل من لبنان” (600 صفحة قَطْعًا كبيرًا – منشورات “مركز التراث اللبناني” – الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU)، وفي الفصل 14 منه (عنوانُه: “غادَر وطنه لبنانيًّا، ولبنانيًّا عاد إِليه”) نشرتُ في الصفحة 464 صورةَ بطاقةٍ أَميركية أَصدرَتْها دائرةُ الجنسية والهجرة سنة 1918، إِثْرَ دخول الولايات المتحدة الحربَ ضد أَلمانيا واحتياجها عددًا إِضافيًّا من الجنود. وهي بطاقة إِحصائية يملأُها جميع الذكور الأَميركيين أَو المجنَّسين بين الثامنة عشرة والخامسة والأَربعين، سواء التحقوا بالخدمة العسكرية أَو لم يلتحقوا بَعد. وكانت فترة 1880-1918 شهِدَت دخول أَفواجٍ مهاجرين بالآلاف من كل العالم.

          في تلك البطاقة عشرون خانةً من الأَسئلة تجبُ الإِجابة عنها. في الخانة رقم 14: سؤَالُ إِن كان مالئُ البطاقة مُـجَـنَّسًا أَو طالبًا الجنسية. هذه الخانة بقيَت “بيضاء”، أَي أَنَّ جبران ليس “مجنَّسًا” ولا حتى “تقدَّم” بطلب الجنسية. إِذَنْ هو أَمضى نحو ثلث قرن في الولايات المتحدة (1895-1931) حاملًا فقط “بطاقةَ الإِقامة الدائمة” (غرين كارد). ولدى صدور البطاقة (1918) كان مضى عليه أَميركيًّا 23 سنة (مع سنواته الأَربع في لبنان – “معهد “الحكمة”). ولو انه، طيلة إِقامته، أَراد الجنسية لكان تَقَدَّم بطلَبها ونالها.

          في مقالٍ لرفيق جبران في “الرابطة القلمية” وليام كاتْسِفْلِيس جاء حرفيًّا: “كان جبران فَخورًا جدًّا بلبنان، وبلبنانيَّته. وهو الوحيد الذي، بين أُدباء “الرابطة”، لم يتجنَّس بالجنسية الأَميركية” (مجلة “الأَديب” – السنة الثامنة – العدد الأَول – كانون الثاني 1949 – صفحة 14).

          وهذا رُوبِن وُوْتِرفيلْد، في الفصل الثامن (“أَصدقاء وخُصُوم”) من كتابه “حياةُ جبران وزمانُه” يكتب: “لم يلتحقْ جبران، مثل ميخائيل نعيمه، بالخدمة في الجيش الأَميركي، لأَنه لم يكن يحمل الجنسية الأَميركية”.

          وفي رسالة إليَّ من السيِّدة جين جبران (زوجة النحات البوسطني خليل جبران، ومعه وضعَت كتاب “جبران عالَمُه وأَعمالُه”، وهو أَفضل بيوغرافيا عن جبران حتى اليوم) أَجابَتْني عن سؤَال الجنسية: “جبران لم يكن مُواطنًا أَميركيًا، ولا شقيقتُهُ مريانا”.

          لم يُنْكِر جبران فضلَ أَميركا عليه، لكنَّ لبنان ظَلَّ يَنبُض في عينيه، وخيالات لبنان بقيَت ترنُّ على رُمُوش قلمه وعلى أَهداب ريشته. لذا صَدَح يومًا (وكان يؤْمن بذلك كلَّ يوم): “لو لم يكُن لبنان وطني لاتَّخذْتُ لبنان وطني”. وسنة 1920 عند إِعلان دولة لبنان “الكبير” (أَيْ “مُكَبَّرًا” بإِعادة أَقضيةٍ إِليه) استقال جبران من لبنان “الدولة” المكبَّرَة واعتنَق لبنان “الوطن” الأَكبر، وصرخَ غاضبًا: “لكُم لبنانُكُم ولي لبناني”، رافضًا لبنانَ “العقْدة السياسية”، و”المشكلة الدُوَلية”، و”الحكومة ذات الرؤُوس المتعدِّدة”، و”الطوائف والأَحزاب”، والذي “ينفصل آنًا عن سوريا ويتصل بها آونةً” (تعابيرُه حرفيًّا من مقاله الشهير).

          بلى، هذا هو لبنانُ جبران: لبنانُ الحضارة والتاريخ والإبداع في كل حقل معرفيّ. ولا ضيرَ في مَن يتجنَّس ويظلُّ منتميًا إِلى لبنان فيَبقى وفاؤُه لبلدِ إقامته ويُبقى ولاءَه للبنان. الأَساس ليس الشعورَ بجواز السَفر بل الشعورُ بالانتماء إلى لبنان، وعْيًّا أَهميتَه في حضوره الحضاريّ والتاريخيّ، ووعْيًا خياناتِ مَن حكَموه (أَهل الدولة) ويَحكُمونه (أَهل السلطة) جاهلين قيمتَه الفكرية، واعين فقط مصالحَهم فيه.

          هذا هو  وطننا، نحن المؤْمنين بلبنان اللبنانيّ الذي لبنانيًّا غادرَه جبران (1895) ولبنانيًّا عاد إِليه (1931) ولو بدون فرح النور في عينيه.

         هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib