في حديثي عن الكتاب المدرسي (حلقة الأَحد الماضي) ركَّزْتُ على كتاب اللغة العربية في المدارس وغُربتِه عن الأَدب اللبناني وأُدبائنا والشعراء. اليوم أُركِّز على غُربةٍ أَخطرَ في الكتاب المدرسي: غربةُ التاريخ.
لستُ أَدري إِن كان في العالم بلدٌ لا يضَع بين أَيدي تلامذته كتابَ تاريخ، تاريخِ بلَدهم ماضيًا وحاليًّا، أَيًّا تكُن أَحداثٌ شهِدَها بلَدُهم في الماضي أَو ما زالت تجري في الحاضر.
كيف يمكن أَلَّا يكون بين أَيدي تلامذتنا في المرحلتين المتوسطة والثانوية كتابٌ عن تاريخ لبنان؟
بل كيف يمكن أَن يَدرسَ تلامذتُنا في كتبهم عن تاريخ بلدان العالم فيما لا يعرفون لمعة واحدة من تاريخ لبنان؟
وأَكثر: كيف يمكن أَن نُنشئَ جيلًا جديدًا في لبنان لا يعرف تاريخ بلاده؟ وكيف يمكن أَن يُحبَّ تلامذتُنا لبنان وهُم لا يَعرفون عن لبنان مراحَله التاريخية وما كان لها من تردُّدات في التاريخ؟
المشكلة، كلُّ المشكلة في المصطلَح، والمصطلَح وليدُ العقلية، والعقليةُ وليدةُ الانتماء، فكيف يُمكن بناءُ وطنٍ موحَّدٍ إِن لم يكن موحَّدًا فيه المصطلحُ وموحَّدةً فيه العقليةُ وموحَّدًا فيه الانتماء؟
ذات فترةٍ جرَت محاولةٌ لوضْع كتابٍ في التاريخ، فتشكَّلت لجنة لدى “المركز التربوي للبحوث والإِنماء”، سرعان ما تصادم أَعضاؤُها في ما بينهم بالمصطلَح. من ذاك مثلًا أَنْ كتَب أَحدُهم “الحمَلات الصليبية” فاعترض آخَر وقال بل هي “غَزَوات صليبية”. وبين “الحمَلات” و”الغَزَوات” وخلافاتٍ أُخرى شبيهةٍ على المصطلَح، انفرَطَ عقْد اللجنة وتوقَّف العمل في كتاب التاريخ.
الأَمر ذاته مرشَّح أَن يتكرر: فمَن هو بطلٌ في منطقةٍ من لبنان هو في منطقة أُخرى خائِنٌ أَو عميل. مرةً أُخرى: هي مشكلةُ المصطلَح فالعقلية فالانتماء، وجُلُّ الانتماء في لبنان ليس وطنيًا بل دينيٌّ مذهبيٌّ طائفيٌّ مناطقيٌّ، وانتماءُ المواطن اللبناني ليست قاعدتُه لبنانَ الوطن بل “في أَيِّ منطقة” من لبنان.
غريبٌ هذا الأَمر ومُدَمِّر، مع أَنَّ بلدانَ العالم شهدَت، جغرافيًّا وحتى دينيًّا، أَقسى وأَعنفَ مما جرى في لبنان، مع ذلك يدرسُ اليوم تلامذةُ فْرنسا عن مجازر “سانت بارتيليمي” سنة 1572، وتلامذةُ أَميركا عن حروب الشمال والجنوب بين 1861 و1865، ومؤَلِّفو كتُب التاريخ الفْرنسيون أَو الأَميركيون لا يجدُون حرجًا في المصطلَح ولا في العقلية ولا في الانتماء عند وضْعهم الكتُب موضوعيًّا لأَن التاريخَ هو التاريخُ وشواهدَه هي التي تتكلَّم عند ذكْر هذه الواقعة التصادمية أَو تلك الحرب الأَهلية.
فكيف نوحِّد في لبنان شعورَ أَولادِنا بالانتماء إِلى لبنان الوطن الواحد الموَحَّد، طالما يكبَر أَولادنا على انتماءٍ وَفْق مذاهبهم ومناطقهم، ومناطقُهم خاضعةٌ لهيمنة هذا السياسي أَو ذاك، فيكبَرون على تمجيد هذا السياسي أَو ذاك، حاقِدين على هذا السياسي أَو ذاك، فينمو لدينا جيلٌ بعد جيل على تمجيدِ سياسيٍّ وحمْل عَلَمه، وذمِّ آخَرَ وإِحراق عَلَمه، في موزاييك بَشِع من تعدُّد الولاءات والانتماءات في دولة واحدة متعدِّدة الرؤُوس عوض أَن يكون هذا الموزاييك جميلًا بوحدة الانتماء إِلى الوطن الواحد والعلَم الواحد والولاء الواحد!
وما دمتُ تحدثْتُ عن شواهد الآثار: السياسيون المتحكِّمون الفارضون ولاءَاتِهم على محازبيهم وأَزلامهم وجماعاتهم في هذه المنطقة أَو تلك، فلْيَعلَموا أَن شواهدَ قبورهم غدًا ستكون شاهدةً على ضلوعهم في كسْر الولاءِ الواحد كي يفرِضوا تاريخًا للبنان على قياس طائفتهم أَو مذهبهم أَو منطقتهم. وحين يجيْءُ يومٌ يتولَّى فيه مؤَرِّخون حياديون عِلْميون عَلْمانيون كتابةً موحَّدَةً لتاريخ لبنان، لن يَذكُروا من أُولئك السياسيين إِلَّا شواهدَ قبورهم التي لن ينالَها من التاريخ إِلَّا … لعنةَ التاريخ.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib