يوم زُرتُه في بيته (الأَشرفية 1976) كان في أَواخر تحضيراته لمغادرة لبنان وكنتُ في أَوائل عهدي رئيسَ القسم الثقافي في مجلة “الحوادث”. قال لي سليم اللوزي: “إِهرع إِليه ولو قال كلمتَين. لا يعطي أَحاديث صحافية بسبب وضعه اليائس”.
من هذا “الوضع اليائس” بدأْتُ معه وكان على الحدّ الـمُرّ بين اليأْس والغضب. “ماذا يفعلون بلبنان؟” بادرَني في أَول الكلام. “هل أَنتَ مغادرٌ نهائيًّا”؟ انتفَض: “لا. أَبدًا. مُوَقَّتًا إِلى أَن ينسحب شبح الموت عن بلادنا”. قالها “بلادنا” بصوت عريض. مع أَن پاريس قدَّمت له المجدَ العالمي. “صحيح، أَجابني، لكنه مجدٌ يعود كذلك إِلى لبنان. أَنا أَعتزُّ بلبنانيَّتي فوق كلِّ اعتزاز”.
يومها غادرتُ جورج شحادة وبي أَملٌ أَن أَعودَ فأُحادثَه ثانيةً. لكنه حمَل اعتزازه، و…لم يَعُد.
يروي لي الصديق الكاتب عبدالله نعمان (نزيل پاريس منذ 1974) أَنه غداة وفاة جورج شحادة )17 كانون الثاني 1989) زار زوجتَه معزِّيًا. وصَل عسكريٌّ، وقَف في الباب، أَدَّى التحية، ناول الزوجة مغلَّفًا، أَدَّى التحية من جديد وانصرف. المغلَّفُ أَبيض، عليه (خطًّا بالفرنسية) “السيِّدة بريجيت شحادة”. أَعطتْه لعبدالله كي يفتحَه، يقينًا منها أَنَّ فيه كلامَ تعزية، ككثيرِ ما تلقَّت فترتَئِذٍ. فتحَه عبدالله وقرأَ أَربعةَ أَسطر مخطوطةً بالحبر الأَزرق: “السيِّدة بريجيت شحادة: غيابُ جورج شحادة خسارةٌ لفرنسا والفرنكوفونيا. أَغنى الأَدب الفرنسي بما يستحقُّ أَن تؤَدَّى له باستحقاقٍ عالٍ تحيةُ الإِكبار. تفضَّلي بقبول تعازيَّ لكِ ولابنِكِ. بكل احترام. فْ. ميتران”.
بهذه البساطة: مغلَّفٌ أَبيض عاديّ بدون شعار الرئاسة. ورقةٌ بيضاء في الداخل بدون شعار الرئاسة. 4 أَسطُر بخط رئيس فرنسا. توقيعُه بدون لقب الرئاسة، وبالحرف الأَول من اسمه الأَول: فْ. ميتران”. هكذا الكبار يخاطبون الكبار. أَمام عظمة الآداب والفنون الخالدة تسقُط أَلقاب “الفخامات” الدنْيَوية الزائلة.
جورج شحادة، طيلة إِقامته في بيروت (جاءَها طفلًا مع والدَيه بعد أَشهر من ولادته في الإسكندرية: 2 تشرين الثاني 1905)، كان فرنسيَّ النشأَة والهوى (تخرَّج بإِجازة في الحقوق من پاريس سنة 1930 لكنه لم يزاول مهنة المحاماة بل انصرف إِلى التأْليف)، وكان فرنسيَّ التفكير والتعبير، فرنسيَّ التأْليف من قمَّة تفكيره إِلى أَخمص قلمه، وكان من أَركان “المدرسة العُليا للآداب” لدى تأْسيسها في بيروت (3 كانون الثاني 1945)، ومستشارَ مديرها الكاتب غبريال بُونُور (1886-1969) الذي ذات يومٍ جاءَه مَن يعترض أَن “جورج شحادة قلَّما يأْتي إِلى مكتبه ولا إِلى السفارة ولا إِلى المركز الثقافي الفرنسي، ولا يزاول أَيَّ نشاطٍ وظيفيّ”، فَرَشَقَ بُونُور مخاطِبَه بجوابٍ قاطع: “جورج شحادة ليس موظَّفًا. إِنه الشِعر. يكفينا أَن يكون بيننا”.
مع ذلك، مع كلِّ ما لفرنسا من حصةٍ هي الأَكبر في حياته الأَدبية والشخصية، مع الشهرة التي حصدَتْها مؤَلفاته بالفرنسية من فرنسا ومن العالم، مع أَنه غادر إِلى فرنسا سنة 1976 وتوفِّي في پاريس ولم يعُد إِلى بيروت التي كانت زوجتُه أَسَّست فيها صالة للفنون حملَت اسمَها (“غالري بريجيت شحادة”)، لم يتقدَّم جورج شحادة بطلب الحُصول على الجنسية الفرنسية.
لبنانيًا عاش ولبنانيًّا مات. لم يكُن في حاجة إِلى الجنسية. أَدبُهُ هُويَّتُه. اللغةُ لا تعطي الهُوية. الانتماء الوجدانيُّ هو الأَساس، أَيًّا تكُن جنسيةُ جواز السفر. يكفي أَن يقال: جورج شحادة شاعرٌ عالميٌّ من لبنان.
هـنـري زغـيـب
(السبت المقبل: جبران).