حين قلتُ في حلقة الأَحد الماضي إِنَّ لبنانَ التربويَّ خارجَ العصر (في سياق حديثي عن كتاب التاريخ والجغرافيا في فرنسا لتلامذة البكالوريا، صدَر قبل أَيَّام وفيه صفحتان عن انفجار مرفإِ بيروت) لم أَكُن أَقصد تَخَلُّفَ كتُبِنا المدرسية عن الحدَث (وهذا طبيعي أَمام تصرُّفات سياسيين متَّهمين ما زالوا يتهرَّبون من مواجهة القضاء) بل أُوغِلُ أَكثرَ في تَخلُّف كتابنا المدرسي لا عن حدَث العصر بل عن العصر كلِّه.
أُشيح عن موادَّ لا أَعرف عنها فلا رأْيَ لي فيها، وأَتوقَّفُ عند كتاب اللغة العربية في المراحل الثلاث: ابتدائيَّتِها، متوسطَتِها وثانويَّتِها، لأُلاحظَ فاجعةً سوداءَ في نصوص هذه الكتب، خصوصًا في غياب أَدبنا اللبناني عنها، عدا كتُبٍ قلَّةٍ (بينها سلسلة “دار المشرق”) فيها توازُنٌ في كتَّاب النصوص، دقَّةٌ في التطبيق اللغوي والاستثمار التربوي، إِدخالُ وسائط العصر الإِلكترونية سَمْعِيِّها والبصريّ، ما يجعل قراءَةَ النصوص جذَّابةً، وتمارينَها المصاحِبَةَ سَلِسةً لا تُنَفِّر.
أَقول “لا تُنَفِّر” وأَقصدها، لأَن معظم الكتب المدرسية في التداوُل سَمِجَةُ النصوص، معقَّدةُ التمارين، فقيرةُ الوسائط المصاحِبَة، ما يجعل التلامذة يَنفُرون من الكتاب العربي واللغة العربية، خصوصًا حين يدرِّسُها مَن جاؤُوا إِلى التدريس لافتقادِهم عملًا آخَر.
اللغةُ في المرحلة الابتدائية وسيلة، في المتوسطة وسيلة صوبَ الغاية، وفي الثانوية غاية. وأَعرف أَنَّ مؤَلفين مدرسيين يُدرجون في كتبهم نصوصًا لزملاء لهم كي يعتمدَها هَؤُلاء في مدارسهم، أَو يجتمعون شلَّةً من المدرِّسين لتأْليف الكتاب طمعًا مِن كل واحدٍ بينهم بأَن تعتمِدَه مدرستُه، وأَعرف أَن مدارس تعتمدُ تلك الكتب لأَن مؤلِّفيها زاروا الإِدارة وقدَّموا لها ما تيسَّر من وسائل إِقناعٍ “غير تربوية”. وفي هذه الثلاث الحالات لا يكون المؤَلفون نظَّموا أَو تابعوا دورات تدريبية كي يعتمدوا منهجًا علميًّا مدروسًا في نصوصهم والتمارين.
أَترُكُ الأَدب القديم وأُدباءَه لطلَّاب الجامعات اختاروا دراسةَ الأَدب العربي بمراحله القديمة أَو المعاصرة. ولكنْ ما ذنبُ تلَامذة المدارس يُنْكَبون بنصوص جاهلية أَو عباسية أَو مُقَعَّرة ويُحرَمون من أَدب بلادهم؟ ماذا يعرف تلامذتنا، في المتوسط والثانوي، عن ميخائيل نعيمة وخليل تقي الدين وسهيل ادريس وجبران وعمَر فاخوري وأَبو شبكة وأَبو ماضي ومصطفى فروخ والريحاني وفؤَاد سليمان ومارون عبود وتوفيق يوسف عواد وأَحمد مكي وصلاح لبكي وسليم حيدر وسائرِ رعيلٍ مبارَكٍ يُكوكِبُ ثُريَّا الأَدب اللبناني شِعرًا ونثرًا، فكْرًا وثقافةً، عُمقًا لبنانيًّا يغتذي منه تلامذتُنا زادًا يرافقُهم حين يكبَرون، كما يغتذي تلامذة فرنسا بأَدبها فيكبَرون على حُب بلادهم من خلال حبِّهم أُدباءَها والشعراء.
“المركزُ التربوي للبحوث والإِنماء” مدعوٌّ إِلى نفْض الغبار عن مناهجه المحنَّطة منذ ربع قرن. يشكِّل لجانًا لتطوير المناهج ولا يتابع عمل اللجان فتتوقَّف، ولا أَدري ما الفائدةُ من مركزٍ مفروضٍ أَنه دماغ التربية المتجدِّد مع العصر وَفْق العصر في منهجية العصر، وأَنه يهيِّئُ لجيلٍ يتعرَّف إِلى أَدب بلاده كي يحب َّأَعلامَ بلاده.
وزير التربية الجديد، صديقُنا الدكتور عباس الحلبي – ولَو الوقتُ المعطى له ضئيلٌ مُكَبْسَلٌ في سبعة أَشهر – إِن لم يتمكَّن إِلَّا من تحريك الآسن في هذا المركز العقيم، يكون أَطلَق للكتاب المدرسي وَرشةً تربويةً مباركةً تُحفَظُ له أَنه أَعاد إِلى تلامذتنا وطنَهم المبدِع عبر تعرُّفهم إِلى أُدبائه المبدعين الذين، بأَدبهم، رسَّخوا الانتماءَ إِلى إِرث لبنان اللبناني.
هـنـري زغـيـب