في الجزء الأَوَّل (1140) من هذا الـ”أَزرار”، السبت الماضي، لم يكن هدفي التنظير لِـما على الكُتَّاب أَن يكتبوا. لهم من ضميرهم، قبل فكرهم، وازعٌ للكتابة في وقتٍ معيَّن، أَو في ظرفٍ خاص، أَو في وضع استثنائيّ.
وها اليوم وقتُه، وحاليًّا ظَرفُه، هذا الوضعُ الاستثنائي الذي يعانيه لبنان متوقِّعًا وَقْعَ الكلمة من أَهل الكلمة. ولنا في تاريخ النضال الوطني أَعلامٌ أَدركوا أَنَّ للكلمة وقْعًا ذا تأْثيرٍ مباشِر أَو لاحق يتطلَّبه الوطن في أَيامه الحرجة، وللكُتَّاب أَن يكونوا شهودًا أَو شهداء.
الثورة الفرنسية لم تولَد عشية خلْع بوابة الباستيل بل هيَّأَ لها كتَّابٌ وفلاسفةٌ سنواتٍ قبل 1789، وجَـمْرُهم الثوري أَوصَل ماري أَنطوانيت إِلى المقصلة. وفي تاريخنا: شهداءُ 6 أَيار 1916 في ساحة البرج كان معظمُهم كُتَّابًا وشعراء وصحافيين. فؤَاد حداد (أَبو الحنّ) لم يستشهد لأَنه كان في تظاهرة بل لأَن كلمته كانت أَسنَّ من شَفرة مقصلة. “تموزيات” فؤَاد سليمان لا تزال حتى اليوم مناراتٍ لإِشعال ثورة شعب. أَفكار عمر فاخوري في “الحقيقة اللبنانية” بُذورٌ دائمة لاحتضان الوطن. “رغيف” توفيق يوسف عواد غذَّى عجينُها قمحَ “طواحين بيروت” في تأْريخ مرحلة صعبة من تاريخ لبنان الحديث. “خواطر” خليل تقي الدين لم تكن “ساذجة” قطُّ بل لاذعة بضَرب الخلَل الضالع في لبنان فترتئذٍ.
إِنها الكلمة، وإِنه الأَدب. ولكنني أُطالع اليوم نصُوصًا غارقةً في الأَمس البليد، تفتِّش عن الصورة الشعرية لدى امرئ القيس، أَو بُنْيَة القصيدة لدى الأَخطل التغلبي، أَو الإِرهاصات الانزياحية في العصر العباسي. كلُّ هذا اليوم خارج الوقت، خارج الزمن اللبناني، خارج النبض المطلوب. ظَلَّ كُتَّابنا عقودًا شاهرين أَقلامهم، شِعرًا ونثرًا، لنُصرة القضية الفلسطينية وثورة الجزائر وسائر قضايا عربية جميعُها مُـحِقَّة، فهل اليوم مَن يردُّ وفاءَه لقضية لبنان؟ عدا نزار قباني وعمر أَبو ريشة وبضعة شعراء على منبر المهرجانات الأَدبية في بيروت، لم يَشهَر اليوم كاتبٌ عربيٌّ هناك وفاءَه للبنان، وهنا كُتَّاب لبنانيون موبوؤُون بالانفصام عن قضية لبنان عوض أَن يكون التزامُهم بوطنهم قبل أَوطان الآخرين.
ليس المطلوب التغزُّل بلبنان شوڤـينيًّا بل إِشهار إِرثه الحضاري والفكري والإِبداعي بأَقلام أَبنائه اليوم يُبرِزون حقباته المضيئة ومفاصلَه فتبقى شاهدة (“بُؤَساء” ڤـيكتور هوغو أَبلغُ من أَيِّ تحليل تاريخي عن تلك الفترة في فرنسا)، ويضيئُون على حضوره وهويته وتراثه الإِنساني والتاريخي والإِبداعي، إِنما لا في قصائد منظومة ببلادة عَروضية تافهة ولا في نصوص نثرية عاطفية سطحية.
أَعلامُ لبنانَ الأَمسِ المبدعُون هم أَركانُ البُنْيَة اللبنانية الخالدُون، لا سياسيُّوه العاجلًا أَو “عاجلًا” عابرون إِلى النسيان. وعلى كُتَّابنا اليوم أَن يَشهَروا وفاءَهم لكيان أَرضهم الأُم وولاءَهم لإِرث وطنهم الأَب، كي ينزرعوا اليومَ في الضمير وغدًا في الذاكرة، ويكونوا في كل غدٍ أَعلامًا جدُدًا يستحقُّون لبنان.
هـنـري زغـيـب