إِذا “التَباعُدُ الاجتماعي” تعبيرٌ حسَنُ النية سيِّئُ المدلول على تفكُّكٍ في المجتمع، فـ”التباعُد الجَمْعي” أَصحُّ تعبيرًا عن تباعُد جسَدي وقائيٍّ وسْط الجمع أَو المجموعة أَو الجموع درءًا أَيَّ خطرٍ وَبائي.
أَقول الجُموع وتتراءى لي مشاهدُ المتباعدين جسديًّا في الشوارع والأَماكن العامة، فتتسرَّبُ الغصَّة على تدبيرٍ، ولو احترازيّ، يخلق في النفس حزنًا على السائرين أَو الجالسين أَو المتنقِّلين، في مشاهد بشرية تُصَحْرِنُ علاقاتٍ إِنسانيةً تجعل الفرد كائنًا اجتماعيًّا لا سند له منفردًا بعيدًا عن أَخيه الإِنسان.
يأْخذُني هذا التفكير إِلى الفن التشكيلي: لوحات زاهية أَطلعَتْها ريشاتٌ عبقريةٌ رسمَت مجاميعَ وجموعًا وجماعاتٍ لا قلق في اجتماعها ولا خطر انتشار وباء يَحُول دون رسم الفرح على وجوه نابضة. فاللوحة بدون الإِنسان طبيعةٌ جامدة شكلًا وتعبيرًا، والطبيعة بدون الإِنسان جمالٌ ناطق موقَّتًا كأَنما، رغم جماله، ينتظر حسَّ الإِنسان في لحظةٍ، في برهةٍ، في رَقشةِ لونٍ أَو مَلمَحٍ تذكِّرُ بسؤَال الرسام الفرنسي إِدوار دُوغا وكان يحب التنقُّل بالباص: “أَما خُلِقنا كي نلتقي معًا ويرى واحدُنا إِلى الآخَر”؟
من هنا جماليا كثيرين من أَسياد الريشة في رسْم الجموع. أُفكِّر بلوحة “حفلة راقصة في طاحونة مونمارتر” (1876) للانطباعي الفرنسي أُوغست رُنوار جمعَ فيها ثلاثةَ أَبعاد. الأَقرب: حوارٌ بين الجالسين إِلى طاولة، الأَوسط: حركة الراقصين بعد ظُهر ذاك الأَحد، والأَبعد: منصَّة الفرقة الموسيقية في ظلال أَبنية محيطة. وفي أَلوان اللوحة ووجوهها ما يجعلها تكاد تنطق بعبير الفرح.
أُفكِّر أَيضًا بلوحة “جادة الكبُّوشيات” (1873) للانطباعي الآخَر كلود مونيه رسَمها من شرفة صديقه الكاتب نادار لجموع تتنقَّل بعد ظهر نهار شتائي غمرَت فيه أَكُفُّ الثلج البيضاءُ قبعاتِ المشاة وقرميدَ البيوت ورؤُوس الشجَر كأَن الثلج يكاد يخاطب تلك الجموع المهرولة إِلى اتِّقائه.
الجموع! يحضرني هنا رسامُنا اللبناني حسَن جوني، المعنيُّ دومًا برسم جموع وجماعات في المقاهي والساحات، وأَذكر عبارته اللافتة: “أَرسم أَحيانًا أَشخاصًا من حيِّ طفولتي، أَو ضيعتي وإِلفةً دافئةً كانت تغمُر ناسها، أَو صيادي السمك في الخمسينات على شاطئ عين المريسة حين كان البحر يطوف حتى عتبات البيوت، فتكتسب لوحتي لحظاتِ حياةٍ ومشاهدَ حنينٍ، ويلبس الماضي نبضةَ الحاضر” (مجلة “السياحة اللبنانية” – أَيار 2019).
أَعود إِلى مطلع النص: التباعُدُ الجسَدي يُصَحْرِنُ العلاقات الإِنسانية ويُفسِد الذاكرة الحميمة ويَطرد الحنين من قلب الحنان، بينما في لوحات الفنانين ذاتِ المجاميع يَبتهج النظرُ وتَنبض ديناميةُ الحياة حتى لتصبح اللوحة رؤْية متحركة على قماشة جامدة.
قد تنحسر هذه الفترة الكورونية الكالحة عن حالاتِ كآبةٍ ولحظاتِ إِحباطٍ وسويعاتٍ رماديةِ الطعم تعكس مشاهدَ من التباعُد النفسي قبل الجسدي، الفردي قبل الجماعي، وهي مشاهدُ لن تنقذَها إِلَّا ريشة فنان مبدعٍ ينسج في لوحته نُور الفرح على وجوه نابضة.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib