الذين شوَّهوا – ومستعدُّون عند تلقِّيهم الأَمر أَن يُشوِّهوا – وجهَ الحبيبة بيروت، لا يشوِّهون سوى الدولة والحكْم والحكومة، ولا يَـمَسُّون – ولن – أَيَّ ملمَح من حضارتها الخالدة.
وُجوهُ الدولة والحكْم والحكومة، جميعُها عابرةٌ مثل الغيم العابر، زائلةٌ مستقبَلًا مهما طالت إِقامتُها في حاضر المدينة، فهي أَساسًا أَقنعةٌ مُوَقَّتة لزمن مُوَقَّت. وما قيمة السنوات الساقطة في عُمْر حضارةٍ ساطعة؟
معالم المدينة، أَيِّ مدينة عظيمة، مهما تغيَّرت تحت مطارق الرُعاع أَو مؤَامرات سياسيي عصرها، ستُسقطُهم هباءً وتُواصل سيرها رافعةً رأْسها شَمَمًا صوب قمَم التاريخ. ذات يوم قال المؤَرخ الفرنسي غبريال هانوتو Hanotaux: “إِن لم تَكُن في لبنان أَعلى قمَّةٍ جغرافيًّا، فإنَّ فيه واحدةً من أَعلى قمَم التاريخ العالمي” (مقدِّمته سنة 1918 لكتاب قنصل فرنسا في لبنان عامئذٍ رينه ريسْتِلْهُويبِر Ristelhueber “التقاليد الفرنسية في لبنان”). وذات يوم كتب السفير والكاتب الفرنسي ﭘـول موران Morand : “قبل 2000 سنة من الميلاد، كانت صيدا وصور كلَّ تاريخ العالم” (كتابه “المتوسط بحرُ المفاجآت” – ﭘـاريس 1938). وكلا موران وهانوتو من “خالدي” الأَكاديميا الفرنسية.
هي ذي إِذًا هيبة الحضارة تفرض سطوعها الخالد، فلن تغيِّر فيها خُدوشٌ على وجه مدينة عريقة التاريخ. ففي مدن أَميركية وبلجيكية وبريطانية، بينما راح أُصوليون يحطِّمون تماثيل مَن اعتبروهم “رموز الاستعباد والتمييز العنصري والاستعماري”، ارتفع صوت الرئيس الفرنسي ماكرون: “ممنوعٌ أَيُّ مَساسٍ بأَيِّ تمثالٍ في ﭘـاريس”. ها رئيسُ البلاد أَبى أَن يتشوَّه أَيُّ مَلمَحٍ من وجه الحضارة في عاصمة الجمال.
إِنها هَيبة الحضارة تفرض سطوعها: صباح الأَربعاء 23 آب 1944 تلقَّى “الحاكم العسكري الأَلماني على ﭘـاريس الكبرى” الضابط ديتريش ڤـون شولْتيتْزْ Von Choltitz أَمرًا بتوقيع رئيسه أَدولف هتلر جاء فيه: “إِذا اضطُرَّتْ فَصائلُك إِلى الانسحاب، لا تغادر ﭘـاريس كما هي، بل اتركها وراءَك دمارًا وخرائب”. أَعطى شولْتيتْزْ أَوامره بتلغيم بيوت المدينة وجسورها وتماثيلها وكلِّ مفاصل بنيتها التحتية لنسْفها عند اضطرار المغادرة. وعشية اليوم المضروب، خرج إِلى شرفة الفندق حيث يُقيم، فانبسَطَتْ أَمامه ﭘـاريس بكامل جمالها وأَناقتها وتاريخها الحضاري العريق منتشرًا بطمأْنينةٍ حول برج إِيفل. حين وصل الضابط الذي كان كلَّفه تنفيذ الأَوامر، جاء يسأَله عن ساعة الصفر ليُشعل الأَلغام، غمرَت قلبَ شولْتيتْزْ غصَّةٌ وجدانيةٌ أَن يدمَّر تراث الحضارة فقرَّر أَن يعصى أَوامر رئيسه هتلر: مدَّ نظرَه إِلى ﭘـاريس الجميلة وأَجاب مأْموره بدون أَن يلتفت إِليه: “إِبدأُوا بالانسحاب قبل الفجر، وإِياكم أَن تُشعلوا فتيلًا واحدًا”. وعند تثاؤُب الفجر، كانت جحافل الجيش الأَلماني المحتلّ تنسحب من ﭘـاريس فيما تتناهى إِلى سكانها أَجراس الكاتدرائيات تُعلن صباح التحرير آتيةً من فَرَح الموج على شاطئ النورماندي.
بلى: إِنها هيبة الحضارة تفرض سُطوعها الخالد. ونجمة بيروت الحبيبة ملكةٌ رائعة على عرش الحضارة، فلن يُشوِّه وجهَها خفافيشُ يُرسلهم أَقزامٌ لن يكونوا ذراتِ غبارٍ في الذاكرة حين يَسطع في الزمان تاريخُ لبنان.
هـنـري زغـيـب