“نقطة على الحرف” – الحلقة 1463
قناعُ الأَبالسة وسُطُوع الحرية
إِذاعة “صوت لبنان” – الأَحـد 10 أَيَّار 2020

          في كواليس الأَدب الفرنسي قصة مثيرة رواها ڤـولتير عن “سجين غامض” ذي قناع حديديّ، لم يَعرف أَحدٌ ماذا اقترَف، ما هي تهمتُه، وما كانت مدة عقوبته في السجن. توفي مساء 19 تشرين الثاني 1703 في زنزانة نائية منفردة من سجن الباستيل، ودُفِنَ سرُّه معه تاركًا بعده لمخيلة الأُدباء تصوُّرَ أَنه مات ضحيةَ الظلم والقهر والاستبداد، وإِمكانَ أَنه تَوأَم الملك لويس الرابع عشر الذي خشِيَ أَن ينافسَه في حكْم فرنسا فأَسَرَه مقَنَّعًا بالحديد، محرِّمًا كشْفَ قناعه كي لا يتعرف إِليه أَحد.

          قصة هذا المقنَّع المستضعَف بظلْمِ ذي قُربى، أَخذتْني إِلى بيروت، بيروتِنا الغالية الحبيبة، المستضعَفة بظلْم ذوي القربى: أَضعفُوها، عهدًا بعد عهد، حكومةً بعد حكومة، حجَبوها عن مشهدٍ ثقافي كان لؤْلؤَة الشرق، يرنو إِليه كلُّ ناشدٍ أَلقًا أَو نجاحًا أَو أَمانًا، نكَّلوا بها منذ عقود، رمَوا وجهَها بالأَسيد الحارق، شوَّهوا أَلَقها بعنْعَناتهم وخصوماتهم وتسابُقِهم إِلى الحكْم، زنَّروها بحواجز الإِسمنت وعوازل الحديد، أَفرغُوها من ذويها، خنَقُوا نبْضها الثقافي والحضاري والاقتصادي والمالي والإِبداعي، سطَّحوها لتكون كأَيّ مدينة راكدة، كأَيّ عاصمة جامدة، كأَيّ نقطة شاردة على خارطة باردة، نزَعوا عنها هويَّتها الفريدة المتفرِّدة المفَرَّدة، نكَّلوا بأَبوابها المشْمِسة وشبابيكها الطَلْقة وشرفاتها المفتوحة على هواء الحرية والحضارة، شوَّهوا جمالها ليرَوها أَبوابًا مصفَّحة بالحديد، وأَبنيةً أَثرية مُهَجَّرة من تاريخها الساطع، وجمالاتٍ مفْرَغة من جمالياها، هجَّروها من بَصْمَتِها، من دَورها، من جديدِها كلَّ فجرٍ وكلَّ قمر، حبَسُوها في ظلُمات نفوسهم السميكة ليستفردوا بالوطن لعلْمهم أَنها مفتاحُ الوطن، تجمْهَروا عليها سجَّانين بلا رحمة، شدُّوا الخناق على هوائها كي يمنعوها من التنفُّس، أَوثقوها بحقْدهم كي يعيقُوها عن الحركة، عاقبوها بقناع حديدي كي لا يعودَ يتعرَّف إِليها أَحد فيتنكَّرَ الكُل أَنها ملكةُ المدُن وعروسُ الشرق وسيدةُ العواصم، وحَجَروا عليها كي يَغرقَ لؤْلُؤُها في النسيان ويطوفوا هُم على وجه الزبَد.

          فهل هذه بيروت؟ أَلَيس لها مَن يُعيدها إِلى الحياة، الحياةِ الحلوة مثلَها، الحياةِ المعجوقة بزَوَغان النضارة والحضارة والمنارة؟

          بلى. حتمًا بلى. تلك المقنَّعةُ بالحديد هي في خيالهم فقط مقَنَّعة، هُم المقنَّعون بنواياهم الشريرة تُخفي وجوهَ من أَبْلَسُوهم، إِنما قنَّعوا أَوهامهم ولم يقنِّعوا الحقيقة. وبيروت الحقيقة مستضْعَفَةٌ بظُلْمهم لكنَّها ليست ضعيفة.

          سوف تخلَع عن وجهها زَبَدَهم، وتطفو لؤْلؤَاتها على وجه الغمْر فيَتَبَهْرَجُ بها لبنان والشرق.

          ستعودُ متوهِّجةً بشمس الليل وقمَر الصباحات: نجمةً ساطعةً لا لأَهلها وحدَهم بل للبنان، للشرق، للحريَّة، للحبِّ، للجمال.

          ونجمةُ بيروت الرائعةُ الجمال ستبقى داناي التي أَبوها الحاكمُ المتسلِّط سجَنَها في أَعلى البرج مُسوَّرةً بقناع الحرية الحديدي، حتى جاء زوس كبيرُ الآلهة فأَخصَبَها بمطَر الذهب، وخرجَت من الأَسر خالعةً قناعَها الحديديّ، مخصبَةً جيلًا قويًّا من البيارتة واللبنانيين يَنتشرُون شرقًا وغربًا عباقرةً يَنشرون في العالم لبناناتٍ متوهجةً، ويردِّدُون أُغنيةً نشأُوا عليها أَحَبَّتْهم وأَحبُّوها:

          لَمَّا البحر تْبارى بِلُولُو وياقوت

          قدَّمْهُن إِسواره للحلوِه بيروت

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib