على نافذتي حطَّ صباحًا. رماديُّ الريش، مُـمَوَّجُهُ. على صدره شمسٌ بيضاءُ من زَغَب لطيف.
تلفَّتَ حولَه. بعينَين مُزقزِقتَين اطمأَنَّ إِلى أَمان، فراح ينقُر زجاج النافذة. ينقُر تكرارًا. بحنانٍ مرةً، ومرَّاتٍ ببعضٍ من توتُّر.
فرِحتُ به يصبِّحني وأَنا منكَبٌّ على الكتابة في هدأَةٍ حافية. نهضتُ وفي وُجهتي نيَّةُ ترحيب. أَجفَل. رفَّ تكرارًا بِلُؤْلؤ عينيه، حَـمَلَ بجناحيه جسدَه الضئيلَ المتكوِّر، وطار.
حزنْتُ وأَسِفْتُ: كيف أُفهِمُه أَنْ لستُ أُريد به أَذيَّة، هو الكائن اللطيف تَغْنى الطبيعةُ بجماله الأَليف، ولن أَصطادَه بوحشيَّةِ صيَّاد، ولن أَأْسُرَهُ بساديَّة جلَّاد.
لم يَطُل أَسَفي. عاد إِلى نافذتي. بسَط قائمَتيه الطريَّتَين. تلَفَّتَ حولَه بعينَين قلقتَين من توجُّس. اطمأَنَّ إِلى أَمان، وراح مجدَّدًا ينقُر زجاج النافذة. لعلَّه رأَى صورتَه في الزجاج فظنَّ أَنه يقَبِّل قُبالتَه أُغنوجةً جميلةً مثله.
لبثْتُ بعيدًا أُراقب من عُمق غرفتي انهماكَه بــ”تقبيل” الزجاج، وأَتأَمَّل حرِّيَّته بالتحرُّك فيما أَنا مقيَّدُ الحركة، محجورٌ في بيتي، محجوز في غرفتي، قلقٌ من إِصابتي بوباء مفترسٍ مهاجمٍ كوكبًا لا يملك الناس فيه غيرَ الاتقاء والحذَر والخوف منه، وأَصلُهُ لم يظهر بعدُ، فيما الطبيعة آمنةٌ تواصل دورتَها بجميع كائناتها.
الناسُ محجورون في الداخل، وفي الخارج الفراشاتُ طليقةٌ تتنقَّل على شفاه الزُهور.
الناسُ محجوزون، والنحلُ يواصل شغْله الدؤُوب في نحت أَقراص العسَل.
الناسُ معزولون، والنوارسُ تخطِّط المدى بأَجنحتها فوق بَياض الزبَد.
الناسُ خائفون، والعصافيرُ تلوِّن الفضاء بأَعراس أَغانيها.
الناسُ قلِقون، وأَسرابُ البجَع ترسُم على مرايا البحيرات تموُّجات الحياة المستمرة.
الناسُ مقيَّدون، وأَسرابُ السنونو تواصل هجراتها غيرَ هيابةٍ وباءً ولا حجْرًا ولا كورونا.
الناسُ محبوسون، والطبيعةُ مكمِلةٌ حياكةَ فصولها الأَربعة على نَول نباتاتها وأَشجارها وضحكات البساتين وخيرات الكروم.
أَهي الطبيعة تُعاقِب الإِنسان على انتهاكه بَرًّا وفضاءً خيراتِها وجمالَها وكنوزَها وعطاياها؟
أَلهذا عاقبَتْنا أُمُّنا الطبيعةُ فَحَجَرَتْنا في سُجون زوايانا أَيَّامًا مطَّاطةً رتيبةً نُصغي إِلى أَجفاننا تَنعَس من ضجَر، ونقرأُ في وجوهنا أَصوات خطوطها تتناءى عن الأُفق البعيد؟
يا زائري الجميل: هنيئًا لكَ أَنَّ الطبيعةَ، أُمَّنا وأُمَّك، لا تنتقم منكَ. ولا أَنا سأَحرُمُكَ ما وهَبَتْكَ من حرية.
ودِدْتُ لو أَفتحُ لكَ فتَدخل وأَحتضِنُكَ في بيتي، لكنني لن أَكون أَنانيًّا: فضاءُ بيتي أَضْيَقُ من فضائِك، وَوَساعةُ بيتي أَضْيَقُ من جناحَيك. لن أَحجُرَكَ في قفص، كما أَنا محجور في بيتي، وبيتي محجور في المدينة، والمدينة محجورة في الوطن، والوطن محجور في هذا الكوكب الذي جعلَه الوباءُ ضيعةً مُلْتَمَّةَ البيوت والسكَّان.
أُنْقُر ما شئْتَ على زجاج نافذتي. ثم فلْيَحمِلْكَ جناحاك إِلى أَهازيج الحقول.
إِن حقول الشمس هبةٌ من أُمِّنا الحنون لِمَن يستاهلُ اقتبالها بوفاءٍ فلا يَتَنَمَّر عقوقًا وفيرَ عطاياها.
هـنـري زغـيـب
email@old.henrizoghaib.com
www.henrizoghaib.com
www.facebook.com/poethenrizoghaib