جاء وقتٌ، إِبَّانَ الستينات والسبعينات، كان فيه شارعُ الحمراء مرنًـى ومقصِدًا وَوُجهةً. وتباعًا غابت كلمة “شارع” فكنَّا نقول “الحمراء” وكفى السامعَ معنًى أَننا نعني واحةً في قلب القلب الجميل من لبنان الجميل، تَتَلأْلأُ فيها شَعًّا ساطعًا أَسماءُ وأَماكن: حمراءُ الـمحالِّ الأَنيقة والمطاعم الأَنيقة، مصارفُ الـمُوْدِعين الآمِنين، ﭘِـكادِلِّـي الأَخوَين رحباني وفيروز، صالاتُ الأَفلام عرضًا أَولَ من مصادرها، مؤَسساتٌ حكوميةٌ بأَزهى مقارِّها وأَبنيتها، “هورس شو” الأُدباء والشعراء والصحافيين لبنانيين وضيوفًا في لبنان، مقاهي الأَرصفة التي ضارعَت أَخواتها في أَرقى عواصم العالم، وأَحياءُ متداخلةٌ متساكنةٌ في الهناءة وسْطَ شارع الحمراء أَصلًا وفُروعًا في قلب بيروتنا الغالية، بيروتنا نحن، بيروتنا جميعًا.
هذا الأُسبوع، لم نعرفْه قط، ذاتَ ليلة سوداء، شارع الحمراء: باسم الثورة استباحَه وطاويطُ الليل، وباسم الغضب على مصرف لبنان فيه وسائر المصارف تسلَّلَ الخفافيش الـمقَنَّعون الـمُخَرِّبون وانهالوا على الواجهات الآمنة تكسيرًا وتحطيمًا، وانْدار مؤَدلِـجو الشوارع يكتبون على الجدران شعاراتِـهم القميئة، ولَـحِقَ الزملاءَ الصحافيين ضررٌ مباشِرٌ من القنابل الـمُسَيِّلةِ الدموعَ الـحارقة، وتقاذُفِ حجارة عمياءَ راح الفوضويون الـمندَسُّون الـمدْسُوسُون يُراشقون بها شبابَنا الأَمنيين في فصيلة مكافحة الشغب.
ولا يتبرَّأَنَّ أَحدٌ من إِرسال هؤُلاء الـمُشاغِبين الذين مرَّغوا الثورة المباركة بتصرُّفاتهم الميليشياوية والثورةُ بَراء منهم، لأَن الثوار الأَبرار حريصون على كل حجر في الشوارع، وكل زجاج في الواجهات، ولأَن الثوار يأْخذون بقلُوبهم ممتلكاتِ الوطن ومقارَّ الدولة ويعرفون أَنها بـــ”إِدارة” دولة الفساد وليست “مُلْكَ” وُلاة هذه السلطة، وتاليًا حين تنتصر الثورة سيكون للمواطنين أَن يتعاملوا مع هذه الـمقارَّ وتلك الـممتلكات، لذا يُـحافِظون عليها، ولأَن الثوار لا يَرمون بالحجارة عناصرَ الجيش والقوى الأَمنية التي يعرفون أَنها حَولهم لحمايتهم لا ضدَّهم، ولو صدَرَت من هنا أَو هناك تجاوزاتٌ، بعضُها مُـجحِفٌ وأَكثرُها مُـحِقٌّ، حين يمارس بعض الـمُتظاهرين الـجامـحين تَـنَمُّرًا أَو كيديةً غيرَ مُـحقَّة لا تليق حتمًا بـجوهر الثورة والثوار. فحتى الذين باسم الثورة استباحوا بيروت في السبعينات، وكانوا دخلاء، اندَحروا مطرودين يتخبَّطون بثوراتهم وبقيَت بَـهيَّةً بيروت!
مع الثوار نحن؟ طبعًا مع الثوار إِنما مع ثورةٍ بـمثابرتها الاعتراضية الـمكثَّفة الفاعلة السلْمية، بـمسيراتها الضاغطة في الشوارع والساحات، بـخَلْعها الثقةَ الـﭙـرلـمانية عن طقْم سياسيٍّ فاسدٍ وارثٍ زعاماتِه مُوَرِّث إِياها، ولا تكون بـخلْع الأَبواب في الشوارع ولا بتكسير الواجهات ولا إِلْـحاقِ الضرَر الفادح بالـمطاعم والـمقاهي وحرمانِ أَصحابها من رزْقهم في هذا الوضع الاقتصادي الصعب.
الثوار لا يستهدفون جيشَ لبنان ولا قوى لبنان الأَمنية. ومن انهالوا هذا الأُسبوع على شارع الحمراء تكسيرًا وتهشيمًا وتشويهًا ليسوا من الثوار ولن يرتقوا إِلى شرف الثورة التي تغيِّر، وسوف تغـيِّر وجه لبنان لا بتغيير وجه شارع الحمراء بل بالحفاظ عليه وعلى كل شارع في لبنان كي تبقى سليمةً هذه الشوارعُ التي ستحتفل كلُّها بانتصار الثورة حين يَسقط دُستوريًّا أَهلُ هذه السلطة التي أَورَثُونا هذا الانهيارَ وبين أَدواتهم قطعانٌ أَغنامية يُسيِّرُها خفافيش السياسة الذين يُرسلون عَسَسَهم ليلًا ويتبرَّأُون منهم عند صياح الديك.
هـنـري زغـيـب