لا أُريد أَن أَكون سلبيًّا هذا الصباح. لكنَّ إِيـجابيَّتي ليسَت طوباويةً بـحيثُ أَتغاضى عن ظاهرةٍ واكَـبَتْ ولادةَ الحكومة الجديدة، يُـمكن اختصارُها بـكلمة واحدة: الفُجاءَة.
ففيما نام كثيرون على حُلْم أَنهم سيَصْحُون وزراء فَصَحَوا على كابوس أَنهم استُبْعِدوا فجأَةً، صحا بعضُهم فجأَةً على تسميتهم وزراء. وهذه كانت الفُجاءَة الـمُربكة.
وفيما حـمَل رئيس الحكومة إِلى قصر بعبدا ملفَّ تشكيلته بأَسمائها وحقائبها، داهَـمتْه فجأَةٌ في قصر بعبدا بأَسماء وحقائب لا هو اقترحهم ولا هو اختارها لهم. وهذه كانت فُجاءَةً مُربكة.
ولعلَّ هذه الفُجاءَة هي التي ظهَرت تَعَثُّـرًا واضحًا شاء تَفادِيه رئيس الحكومة إِيعازًا بـقلَّة الكلام وكثْرة العمل. لكنَّ الفَجأَةَ داهمَت بعضَ وزرائه ووزيراته ففاجأَ اللبنانيين وزيرُ المالية بنَعْي عودة الدولار إِلى قيمته المصرفية، وفاجأَهم خروجُ الأَمين العام لـمجلس الوزراء بقراءة مقرَّرات الجلسة الوزارية الأُولى عوضًا عن وزيرة الإِعلام التي داهـمَتْها الفَجأَةُ وهي لم تَعْتدْ بعدُ على الإِدلاء، وداهمت الفَجأَةُ وزيرَ التربية فوعدَنا بـ”الأَقوال أَكثر من الأَفعال” بدلَ “الأَفعال أَكثر من الأَقوال”، ووزيرة العدل فاجأَتْـها الفَجأَةُ ولـم يتَسَنَّ لها أَن تَقرأْ كلمةً مكتوبةً قبل احتفال تَسَلُّمها الوزارة فقَرأَت “سأَسهَر على حَسَن سَير العدالة” عوض “حُسْن سير العدالة”، والفُجاءَة ذاتُها فاجأَت الوزراء الجدُد فَحَفَلَت كلماتُ تَسلُّمِهم حقائبَهم بعباراتٍ تنظيريةٍ تقليديةٍ تغازلُ الثورة والثوار و”مَطالبَهم الـمُحقة”، وتردِّدُ كلمات “عسى ولعلَّ”، و”امنحونا فرصة 100 يوم” و”اعطُونا فترة سماح وراقِبونا ثم احكُموا وحاكموا”، وتباكى الخارجون من الحقائب بعبارات الوَداع وبينهم من التصَقوا بها سنواتٍ حتى اعتَبَروا أَن الوزارة طُوِّبَتْ بِاسمهم أَو بِاسم مَن وزَّرهم فأَسِفوا على ما “لَـم يُسمَح لهم بتحقيقه” أَو هُم عجزوا عن تحقيقه. وبالـمُقابل أَفاض علينا الوافدون الجدد بشُكْر مَن وزَّرهم وبتَبادُل مُـجاملات “معاليكَ” و”معاليكِ”، و”إِنقاذ البلَد” و”مكافحة الفساد” و”بابنا مفتوح لكم” و”سنكون عند حُسْن ظنِّكم”، وواضحٌ أَن الفجاءَة داهمتهم فلم يُهَيِّئُوا أَيَّ ورقةِ عمل ولا أَوكَلوا إِلى أَحدٍ تـحضيرَها إِذ ليست الوزارة من اختصاصهم مع أَن هذه الحكومة “وزارةُ اختصاصيين مستقلِّين” فإِذا بين أَعضائها مَـحاسيبُ ليسوا “اختصاصيين” ولا “مستقلِّين”.
أَما عبقريةُ الـجمْع بين الزراعة والثقافة فلا داعٍ للتعليق، ولو بأَقذع الكلام، عن هذا الـجمْع ومَن تولَّاهما فجأَةً ومَن أَسقَط اسمه فُجاءةً قبل دقائقَ من إِعلان تشكيلةٍ هجينةٍ في معظمها، مرتَـجَلَةٍ برَغم الأَيام الطويلة لتحضيرها بــ”لوتو” أَسمائها وتَعَثُّرها بين مَن رفَضَها، ومَن عرقَلَها، ومَن عدَّلَ فيها، ومن حاردَها لأَنها لا تُناسب فريقَه أَو حزبَه أَو تيارَه.
قلتُها “هجينة” لعدَم مناسبةِ كلِّ حقيبة مع مَن أُسقِط اسمُهُ عليها. وحتى مَن ليس فيها هجينًا هُجِّنَ اختصاصه، كالاختصاصي جدًّا والـمستقِلّ جدًّا دميانوس قطَّار، هذا “الحكومةُ القائـمةُ بذاتها”. فالـمُحاصصة السياسية الهجينة هَجَّرته إِلى الخارجية ثم إِلى الاقتصاد ثم إِلى العمل، حتى استقرَّ له ما بقيَ فبقيَت حقيبتا البيئة والتنمية الإِدارية اللتان يعرف الـحسَّان جيِّدًا أَنْ سيحتاج القطَّار حَدَّه في السراي الحكومي مستشارًا يوميًّا لـكلِّ شأْنٍ خارجيٍّ واقتصاديٍّ وإِداريٍّ، بـما سَوف يَزيد حُسَّادَ القطَّار الذين يَتَوجَّسُون منه مُرشَّحًا وثيقًا يليقُ به قصرُ بعبدا.
قلتُ في مطلع حديثي إِنني لا أُريد أَن أَكون سلبيًّا هذا الصباح. لكنَّ إِيـجابيَّتي ليسَت طوباويةً في الـمُطلق، وَتَوَجُّسُنا من هذا اللَـبَـن قبل اختباره، أَنه لَــوَّعَنا كثيرًا وطويلًا… وهو حليب.
هـنـري زغـيـب