كان لا بُدَّ أَن يأْتي يومٌ يهبُّ فيه مَن يقطعُ رأْس أَفعى طائفيَّةٍ متعدِّدةِ الرؤُوسِ السياسية الإِقطاعية فكان فجرُ 17 تشرين اللبناني. لم يُعْلِنْهُ فردٌ ولا ادَّعاه شخصٌ بل سرى في شرايين الوطن دمٌ لبنانـيٌّ جَـماعيٌّ أَطاح دهاءَ السياسيين، خلَعَهم عن كراسي استبدادهم الإِقطاعي، كشف عوراتِهم الخبيثة، وفضَح نوايا لـهم سمَّمَت دمَ لبنان على نهج أَسلافِهم ذوي الرؤُوس الطائفية السامَّة، لكلِّ رأْسٍ منهم زعيمٌ سياسيٌّ إِقطاعي يُثير أَزلامَه وقطعانَه ضدَّ أَزلامٍ وقطعانٍ لسياسيٍّ إِقطاعيٍّ آخَرَ في سُلطةٍ طائفية قسَّمَت المناصب رئاسةً ونيابةً وحكومةً وإِداراتٍ ووظائفَ تعيينًا وانتخابًا حتى باتت ميثاقًا ونهجًا ونظامًا ومفهومًا واتفاقًا و”طائفًا” و”دوحَةً” واصطلاحاتٍ سبَّبت حروبًا سعَّرتها الطائفيَّة بأَصابعَ سامَّةٍ تُـحرِّك دُمَى السياسيين مرَّةً من خلف الستارة ومرَّاتٍ أَمامَها.
لكن شعبَ لبنان خلع الطائفيةَ أُعجوبيًّا وانتفض. كلُّه انتفض. بشبابه وشيبه انتفض. بصباياه ونسائه انتفض. بالآباء والأُمهات انتفض. بأَصوات ثوَّاره انتفض وهُم يَـجْهَرون بأَنْ لم يَعُد في صفوفهم شيعيٌّ هنا، مارونيٌّ هناك، سنيٌّ هنالك. يدًا واحدةً رفَعوا مُقْسِمِين أَنهم لبنانيون أَولًا، ثائرون على طبقة سياسية إِقطاعية فاسدة غلَّفها السياسيون بحجج الطائفية والتوازن الطائفي والحفاظ على حقوق المسلمين أَو المسيحيين.
منذ 17 تشرين اللبناني، والرؤُوسُ تتهاوى تباعًا، ولن يتوقف هذا التهاوي حتى ينقى لبنان من دماءٍ فاسدةٍ في شرايينه.
أَطاح شعبُنا الطائفيين، نعم. في سلسلة بشرية من عكار إِلى صور أَطاحهم. في ساحات طرابلس وجونيه وصيدا وصور والنبطية وكفررمان أَطاحهم. في ساحتَي الشهداء ورياض الصلح أَطاحهم كاسرًا أُلعبانياتهم الآذاريةَ بين 8 و14، مُـحطِّمًا أَصنامياتهم لِـمنطق الساحتَين المتقابلتَين المتقاتلتَين. وقبل أَيامٍ بعناق الأُمهات في عين الرمانة والشيَّاح أَطاحهم. وأَطاحهم على جسور فؤاد شهاب وجل الديب ونهر الكلب والزوق حين توحَّد شعبُ لبنان، كلُّ الشعب، تحت عَلَم لبنان الواحد، كلُّ الشعب هاتفًا بصوت واحد “كلُّنا للوطن” لا خائفًا من زعيم طائفي ولا مُؤْمنًا بعد اليوم بدولة طائفية وحكومة طائفية وزعماء طائفيين.
وعى شعب لبنان. وعى أَخيرًا. وعى كثيرًا أَن في الطائفية الفسادَ والذلَّ والفَقر، فصاح في الساحات والشوارع: “لا لذُلِّ الطائفية… نعم لتذليلها”. هكذا انكسَر خوف الشعب فانتقل الخوف إِلى سياسيين طائفيين غابوا عن الاحتفالات السياسية والاجتماعية والدينية والدنيوية، مُـخْتَبِئين وراء ستارةٍ كانت تفصِلهم عن شعبٍ مكسور وما عادت اليوم تحميهم عن شعب يثور.
تشرينُ اللبناني قضى على مقولة “الحرب الأَهلية”، وسيقضي بها على زبانية الطائفية، فيشرقُ على لبنان فجرُ دولةٍ مدنيةٍ تفصِل الدين عن السياسة، والطائفة عن الطائفية، وتفتح الأُفق للكفاءَة والـمواطنية، وتدفِن بكل قسوةٍ زمنَ الـمـحسوبيات وزبائنياتٍ قطعانيةٍ أَغناميةٍ سَـمَّمت بها طويلًا دماءَ لبنان سُلطةُ السياسيين الطائفيين.
هـنـري زغـيـب