يَرفُضُونهم. يُنكِرونهم. يُعدِّدون أَسباب رفْضهم وإِنكارهم، ويَـمضون في طبخ حكومةٍ “تكنوسياسية” كأَنَّ الثورة لا تَعنيهم.
هذه حال السُلطة عندنا مع “تكنوقراط” أَو “اختصاصيين” أَو “تقنـيين” تُطالب الثورة بــإِيلائهم حقائبَ الحكومة العتيدة خاليةً من السياسيين.
وأَكثر: يُهدِّدون بإِسقاطها في مجلس النواب وبحجْب الثقة عنها فتَسقط قبل أَن ترى اليوم الأَوَّل من عهدها. يقولون هذا ويرتاحون مبتسِمين إِلى أَن الحكومة العتيدة سَـــ”تسمَح” ببعض التقنيِّين لــ”بضْع” حقائب يتسلَّمها أَفراد من “الحراك”، كأَنما هذا السماح “جائزة ترضية” تُسكِتُ الـمُطالبين بحكومة اختصاصيين.
وأَكثر بعدُ: تتَساءَل السلطة بسُخرية من أَين تأْتي بهؤُلاء “الـجديرين” التكنوقراطيين.
من أَين؟ وفي لبنان طاقاتٌ ناجحة في كل ميدان وحقل واختصاص، وكلُّ طاقةٍ خلَّاقةٌ مبدعة في اختصاصها؟
من أَين؟ وفي العالم العربي لبنانيُّون ناجحون بارعون يُسهمون في نهضة الدُوَل التي استقبلَــتْهم وتُقدِّر ما لها يقدِّمون؟
من أَين؟ وفي كل صقْع من دُوَل العالَـم لبنانـيٌّ ناجح يسجل اختراعًا جديدًا أَو اكتشافًا جديدًا أَو جائزةً جديدة أَو اجتراحًا جديدًا في الطب أَو الهندسة أَو أَيِّ اختصاص جامعيّ أَو ثقافـيّ أَو صناعيّ أَو علْميّ أَو اقتصاديّ أَو مهنـيّ أَو أَيّ ميدان معرفـيّ آخَر؟
من أَين؟ هل إِنكارٌ بعدُ أَكثر؟ هل إِهانةٌ بعدُ أَوجع؟ هل استكبارٌ بعدُ أَوقح؟ هل إِفلاسٌ سياسيٌّ بعدُ أَوضح؟
من أَين؟ وهل وقَف النجاح على السياسيين وحدهم، والبلادُ وصلَت إِلى هذا الانهيار بسبب تسلُّطهم وتَـحَكُّمهم بـمصير البلاد وتقاسُم خيراتها وتجفيف مواردها حتى وصلَت إِلى هذه الفاجعة؟
من أَين؟ أَلم نفهمْ بعدُ أَن كوتا الحقائب معقودةٌ فقط لرجال السياسة وأَزلامهم ومَـحاسيبهم ومستشاريهم والواقفين بأَبوابهم؟
من أَين؟ هل بعدُ نكرانٌ واستنكارٌ وتنكُّرٌ لطاقات اللبنانيين الـمبدعين في كل حقل واختصاص؟
ماذا؟ تَنقصهم خبرة الحكْم؟ وهل السياسيون، هؤُلاء السياسيون الحاكمون الـمتحكِّمون، هم وحدَهم “الخبراء” في شُؤُون الحكْم، متوارثينَه جيلًا عن جيل، وها نتيجةُ “خبراتهم” أَودت بنا اليوم إِلى الكارثة؟
أَقلُّ ما عند “الاختصاصيين”: الرؤْية. ولبنان اليوم لا يحتاج إِلى أَمرٍ قَدْر حاجته إِلى رؤْيةٍ كانت فقيرةً لدى معظم سياسيين وهي غنيَّةٌ جدًّا لدى اختصاصيين يضَعون خطَّة مستقبلية تربوية مالية اقتصادية صناعية ثقافية عمرانية في كلّ حقل، كلّ حقل، ولذا يرفضهم بإِصرارٍ “كارتيل” السياسيين العارفين أَنْ إِذا “سَـمَحوا” للاختصاصيين أَن يتولَّوا الحقائب فضحوهُم في عقْمهم ومصالحهم وتسلُّطهم ولن يعود لهم وجودٌ يوميٌّ على خارطة الوطن. لذا يمارسون اليوم سلْطتهم فيُنكرون على الاختصاصيين قدْراتهم، ويتنكَّرون لـمواهبهم وطاقاتهم، ويستنكرون وُصولهم إِلى الحكْم ويُهينُون – نعم: يُهينُون – مواهبَ لبنانيين مبدعين في كلّ حقل، لا يستزلِـمُون لأَحدٍ من “بيت بـو سياسة” ولا يَنتمُون إِلى تيار أَو حزْب أَو زعامة.
غير أَن فجرَ الثورة سيطلَع، دون أَن يصيحَ لصباحها ديكُ السياسيين.
هـنـري زغـيـب