بين سيل الشعارات التي ينادي بها الثوَّار في الساحات والشوارع، صرخاتِ ظلم وقهر وانفجار، شعارُ “فَلْيَسقُط حكْم الأَزعَر”.
سواءٌ عَرف شبابُنا الثُوَّار مدلولَ هذه الكلمة فاعتمَدوه، أَم لم يعرفوه فنادَوا به وَفْق مفهومها شعبيًّا، وسواءٌ كانوا بــ”الأَزعَر” يَعنُون فرديًّا أَحدَ أَعضاء هذا الطقم الحاكم أَو جَماعيًّا هذا الوكْرَ الرهيب من الدبابير والخفافيش والزواحف الرازحين على صدر الحكْم ويتعاملون مع الشعب بصَلَف الاستهتار والاستكبار، فمعنى الكلمة يشمل الفردَ والوكْر معًا، ويَلعنُ كلَّ ما فيه وكلَّ مَن فيه.
جاء في القاموس: “زَعِر الرجلُ: قلَّ خيرُه، أَو قلَّ شَعرُه وتفرَّق فبَانت جِلْدة رأْسه”. وجاء أَيضًا: “الأَزعَر هو القليل الشَعر، أَو الـمتفرِّقُ الشَعر، أَو اللص الخاطف المارد، جَمعُها زُعران”، وجاء كذلك: “رجُلٌ زُعرور: سيِّئُ الـخُلق، قليلُ الخير، جمعها زَعارير”.
ومهما اجترح أَهلُ السلطة، زُعرانًا وزَعارير، من نَعيِـبـهم أَننا في سفينة واحدة ونغرق معًا إِذا استمرَّ الوضع على ما هو، فمن البداهة الغبيَّة أَنَّ “التايتانيك” لم تغرق بسبب ركَّابها النائمين بسلام بل بسبب طقم الساسة الذين كانوا يقودونَها فَتَلهَّوا أَو استهانوا أَو أَغفَلوا أَو استهتروا ولم يتنبَّهوا إِلى اقتراب السفينة من جبل الجليد. فــ”الأَزعَر” إِذًا ليس فاقدَ الشَعر بل فاقدُ الضمير.
هكذا وكْر الحاكمين عندنا منذ أَشهر وسنين وعقود: ما زالوا على صدر الحُكْم لاهين مستهينين مُغْفِلين (ومُغفَّلين) مستهترين مستكبرين حتى اقترب الوطن من جبل الجليد وبدأَ يغرق فيما هم يتَّهمون الشعب بالشغَب والفوضى و”الـحَرَاك”.
الشعبُ الذي بات هَمُّه اليومي أَن يستفسر عن أَحوال الطرُق السالكة والكهرباء الحالكة ومحطات الوقود الهالكة والوقوف صفوفًا كي يستجدي حفنةً من ماله في المصارف، والشعب الذي تقصفه دولتُه بضرائب لا تؤَمِّنُ له مُقابلَها ضمانًا لشُيُوخه ولا فرصَ عمل لشبابه ولا طبابةً لـمرضاه ولا مؤَسساتٍ ترعاه ليعيشَ بأَدنى مستويات العيش، الشعب الذي إِذا طالَبَ بحقوقه صار “مُشاغبًا” يجب لَـجمُه، وإِذا رفَع صوته ضدَّ الظلْم صار “ثائرًا” يجب قمعه، وإِذا نادى بلقمة عيشه صار “مدسوسًا”، هو شعبٌ فاض به القهر حتى كسَرَ قضبان سجْنه وثار على الراتعين في كراسي الحكْم، يوَحِّدَ صفوفَه الجوعُ والظُلْمُ والخوفُ على مصير سفينة الوطن يتلهَّى ربابنَتُها بتقاسُم غنائمهم ويُـجيبون عن الجوع بالبسكوت.
هذا الشعبُ الذي انفجرَ بركانُه في منتصَف تشرين اللبناني، ونشَبَ قوَّةً أَطاحت مجلسَ وزراء وعطَّلَت مجلسَ نواب وَأَلْغَت ترشيحًا مفروضًا عليها وجاءَت بنقيب محامين من فرح العطاء لا من شؤْم السياسيين، هو شعب لن يَهدَأَ بركانُه أَمام تهويلٍ وتهديدٍ حتى يرى في قيادةِ دولتِه وُجوهًا مليحة لا أَقنعةً قبيحة، وحتى تنهارَ الكراسي بإِقطاعيِّــيـها، وحتى يُشرِقَ فجرٌ جديدٌ للبنانَ الجديد، وحتى يُطْبِقَ الشعبُ على مَن يَـحكُمُه من زبانيةِ الـمَناقير في وكْر الزُعران والزَعارير.
هـنـري زغـيـب