أَبدأُ بالتحية، تحيةِ تقديرٍ وطنيٍّ واحترامٍ مهنيٍّ وشكرانٍ إِنسانيٍّ لفريق مندوبين ومندوبات ومراسلين ومراسلات ومصورين تلـﭭـزيونيين يُـمضُون ساعاتٍ طويلةً مرهِقةً مضْنيةً: وُقُوفًا في الساحات والشوارع، حـمْلًا ميكروفانات، تغطيةً حركةَ السير أَو الاعتصامَ أَو التظاهُرَ أَو إِقفالَ الطرقات أَو صدَّ المحاولات، لتأْمين تغطيةٍ تلـﭭـزيونية مباشِرة، فريقٌ أَمام الكاميرا، وفريقٌ وراء الكاميرا في الستوديو من تقنيِّين ومذيعاتٍ ومذيعين ومُـخْرجين يَنقلون على أَربعِ شاشاتٍ أَو أَكثرَ في وقتٍ واحد، كي ينتقل نبضُ الثورة من الثُّوار في الشوارع والساحات إِلى مُشاهدينَ في لبنان والعالم يتابعون ثورةً حقيقيةً قلبتْ تاريخَ لبنان الحديث من شعبٍ خاضع إِلى شعب رائع كان يشاهدُ عَرض الدولة في يوم الاستقلال فبات اليوم هو الدولة وهو العرض وهو الاستقلال.
سوى أَن بعضَ المراسِلات والمراسِلين، عفْوًا أَو عمْدًا، إِبداءً أَو إِيحاءً، كانوا يُغالون في التَسْآل فيُدلون الميكروفون عشوائيًّا إِلى مواطنين ليس لدى بعضهم ما يُدْلون به جِدِّيًّا بل كان الميكروفون يُثير لديهم شهوةَ الكلام تحليلًا وتفسيرًا حتى بات في الوطن مئاتُ المحلِّلين السياسيين والاقتصاديين والماليين، ما يوحي أَحيانًا بأَنَّ وراءَ تلك العيِّنات من المستَصْرَحين أَسئلةً موجَّهَة مستدْرِجَةً أَجوبةً شبيهة، ما يُـحوِّل الـمقابلةَ ويُـحَوِّرُها عن جوهرها وَفْقَ شعار الـمحطة التلـﭭـزيونية على جبين الـميكروفون.
لأُولئك الزُملاء الـمستصرِحين ثلاثُ وُجهات: وُجهةٌ شخصية لـمَيل الـمُراسل أَو الـمُراسلة، وُجهةٌ ماديةٌ لبَدَل العمل التلـﭭـزيوني، ووُجهة مهنية متعلِّقة بالوسيلة الإِعلامية التي غالبًا ما تَستَصْرِحُ مَن تتَّفق أَجوبتهم وفْقَ اصطفاف تلك المحطة في خطِّها السياسي، فكانَ السؤَالُ يأْتي مؤْذيًا إِحدى تلك الوُجهات الثلاث حين يكون السؤَال موحيًا تلقائيةَ الجواب، أَو مستعملًا أَلفاظًا أَو كلماتٍ معيَّنةً تأْخُذُ الحوار إِلى وُجهة موجَّهة.
مهنيةُ المراسِلة أَو المراسِل أَن يكونَ موضوعيًّا يَنقل نبْض الشارع لا ما يريد السؤَال أَن يَنقُلَ للمشاهدين حين يكونُ السُؤَال عن تعصُّبٍ إِحاديٍّ أَو تحليلٍ أَو تَكَهُّنٍ لِـما سيحصل من دون بُنْيَةٍ موضوعيةً لأَيِّ تـحليل. فليس كلُّ مواطنٍ مـحيطًا بتفاصيل ما يجري حتى يكونَ الجوابُ ذا مدلولٍ أَو رأْيٍ أَو تحليل.
ولا أُعمِّمُ بل أَقول هذا عن بعض المراسِلات والمراسِلين مع تكرار تحيَّتي للمحترفين والموضوعيين المهنيين بيَنهم. على أَيِّ حالٍ: الـمُشاهد اللبناني أَذكى من أَن تُؤَثِّرَ عليه أَسئلةٌ أَو إِيحاءَاتٌ أَو استصراحات لأَنه مُـجْمِعٌ على أَن تشرينَ اللبناني فَتَحَ الأُفق للُّبنانيين الرائعين فكسَّروا قضبان القفَص وخلعوا أَبواب السجن وخرجوا إِلى فضاءٍ لبنانـيٍّ لن يكبِّلَ أَجنحَتَهم بعد اليوم لأَن الثورةَ اندلعَت لتُؤَسِّس لبنان الحقيقي، استقلالًا لا عن الأَجنبي أَو عن وصايةٍ خارجيَّة بل عن سُلطة محليةٍ سَيَجيْءُ يومٌ لن تَـجِدَ فيه وقتًا للهرب من غضْبة شعبٍ غاضبٍ أَثبتَ أَنه هو السلطة وهو القرار وهو الصوت الذي يُقْلقُ سُلطة ما زالت تطمُرُ رأْسها في رمل الاستكبار وتُصِمُّ سَمْعَها عن أَصوات الشعب. لكنها، حين ستُخرج رأْسها من الرمل وتُعيد سمْعها إلى الإِنصات سوف تَـجِدُ أَنَّ عيدَ الاستقلال الحقيقيَّ هو عَرْضُ الشعب لا استعراضَ السلطة التي تتحكَّم بالشعب، وأَنَّ قبضةَ الشَعب أَطاحت كراسي الـمُكَرَّسين الراتعين عليها، وأَنَّ دهاليز الظُلمة ابتلَعَتْ الـمستكبِرين وَرَمتْهُم في لعنة الليل الطويل، وأَنْ لا مكانَ بعدُ لهم في صباحِ لبنانَ الجديد.
هـنـري زغـيـب