كأَنَّ له عليَّ رفْعَ اعتذار.
كان لومي إِياه قاسيًا، وأَنا أَرى شبابَه وصباياه، في الجامعات والمطاعم والمقاهي والطرقات والسيارات، مشغولين بالـمكالـمات الخَلَوية والنصوص “الواتسآﭘــية” والرسائل الصوتية، حتى كِدتُ أَرى رماديًّا قاتمًا مستقبلَ البلاد على أَيدي هذا الجيل الـمُراهق المأْخوذ بقشور العصر دون الغوص على جِدِّيَّة في الرؤْية والمسؤُولية.
… إِلى أَن كان السابع عشر من تشرين، فإِذا بهذا الجيلِ الذي قلتُه رخوًا خانعًا مُراهقًا غيرَ مسؤُول، يدحرجُ صخرةَ “تابو” المحظورات عن باب سجنه الدهريّ، ويُزلزلُ الأَرضَ تحت قدميه الشَمشُونِــيَّــتَين، ويكسر الحواجز والأَصفاد والسلاسل، وينقَضُّ على سجَّانيه في جرأَةٍ وعنادٍ وإِرادةٍ أَخذَت طيلة التشرينَين تُغَـــيِّر ما كنَّا نَظُنُّه قدَرًا جبَّارًا فإِذا به قناعُ قدَرٍ سرعانَ ما سقَط فسقطت معه هَيبةُ ذاك القدَر.
وخرج المارد من القمقم، وغَضَبُ الشعب كَسَّــر قضبانَ القفص.
وانهمروا… مئَاتٍ فآلافًا فملايينَ انهمروا.
وبكل وعيٍ ونضج طالبوا، جامعيين مُدْركين أَهميةَ لبنان العَلماني الذي يحترم الطائفة ويَنبذُ الطائفية، يحترم خصوصيةَ الدين ويَنبذُ عمومية التعصُّب، ويعرف أَنَّ كلَّ ما يَـجري في الشوارع خطوةٌ أُولى نحو دولة تخلَع عنها الإِقطاعَين السياسي والديني، دولةٍ يَنشأُ أَبناؤُها على الـمُواطَنَة الـمُتساوية لا على الاستزلام والزبائنية والمحسوبية، دولةٍ عندئذٍ يَـــثِــقُ بها أَبناؤُها المهاجرون فيعودُون إِلى أَرضهم الأُمّ كي يَبْنُوها مع إِخوانهم الـمُقيمين دولةً أَقلُّ واجباتها توفيرُ ضمانِ الشيخوخة وحقِّ التطبُّب والتعلُّم والاستشفاء وتقتطعُ ضريبةَ دخْلٍ وازنةً لكنها بالمقابل تُؤَمِّن لشعبها تقديماتٍ أَقلُّها النقْل المشترَك والكهرباء وفرص العمل والبيئة النظيفة.
بكلِّ وعيٍ ونضجٍ ملأُوا الساحات بهتفةٍ واحدة: “كلنا للوطن”، ورايةٍ واحدة: ما إِلَّا علَم لبنان، وولاءٍ إِجماعيٍّ واحد لجيش لبنان.
قالوهم مسيَّسين مدسوسين حزبيين ديماغوجيين فامتدُّوا سلسلةً بشرية واحدة كذَّبَت كل اتهام بالحزبية والمناطقية والإِيديولوجْيَات العقيمة، وتخاصَروا وتكاتفوا من النهر الكبير الجنوبي إِلى بحر صور الخالدة، مُثْبِتين أَنهم ثوَّارٌ واعون حضاريُّون جامعيُّون وليسوا قُطَّاعَ طرُق، وبهذا الزخم خلَعوا من أَذهان آبائِهم تماثيلَ الزعماء وأَصنامَ السياسيين، لا قائدَ لهم إِلَّا الوطن الذي حَلَمَ به أَهلهم ولم يحقِّقُوه فجاءَ الأَبناء يضعون حجرَ الأَساس لبناء صرحه الجديد رافعًا وفاءه لـما سوى لبنان اللبناني.
بكل وعيٍ ونضجٍ مَلَأُوا الساحات لا فارضين مطالبَ شخصيَّةً مرفوعة بل حقوقًا مواطنيةً مشروعة، واحدُهم بِاسم الجميع، وجَعُهم وجَعُ الشعب كلِّه، رافضين اللجوءَ إِلى بطاقة توصيةٍ من سياسيٍّ عقيم، طارقين بابَ الوطن بكفاءَاتهم ومواهبِهم وما أَوفَرَها.
بكل وعيٍ ونضجٍ سجَّلوا الخطوات الأُولى من مسيرةِ نضالٍ طويلٍ هي ذي طلائعُه تُشرِقُ من ليل القهر والظُلْم والخنوع لأَهل السياسة الذين انفَضَح عُقْمُهم عندما انكشفَ إِهمالُهُم الـمُجرمُ تَقَدُّم وطنٍ ركَّبُوه على حجم مصالحهم لا على حجم مستقبلِ أَجياله.
هؤُلاءِ الذين خِلْتُهم ذاتَ فترةٍ أَنهم مُراهقون غير مسؤُولين، وأَنهم جيل “السُوشِل ميديا” اللاهية، بدا أَنَّ فيهم بذورَ جيلٍ جديرٍ يؤَسِّسُ لِـمُستقبلِ وطنٍ يُرسِل جلَّاديه إِلى شفْرة المقصلة.
جيلٍ حقُّهُ عليَّ أَن أَرفعَ له بطاقة اعتذار.
هـنـري زغـيـب