يكاد لا ينقضي أُسبوعٌ إِلَّا ويكون اعتصامٌ في ساحة أَو في باحة أَو على عرض طريق. جميعُها اعتصامات مَطْلبية أَو طالبية أَو اطِّلابية، وختامُ معظمِها انتقاءُ لجنةٍ من الـمعتصمين لـمُقابلة الـمسؤُول وعَرض الـمطالب. من ذلك ما نشهده في ساحة الشهداء أَو ساحة رياض الصلح أَو طريق النهر أَو أَمام وزارة التربية أَو سواها في نقاط أُخرى من الوطن، ساحلِه أَو ريفِه أَو بقاعِه.
لا أُتابع كم واحدًا من تلك الاعتصامات بلَغَ مع الدولة نِـهايتَه السعيدة، لكنني أَعرف أَن الدولة تُغفل اعتصامًا أَوَّلَ فثانيًا وربما ثالثًا، ولا تهرع إِلى الاستجابة إِلَّا إِذا بلَغ الاعتصامُ حدَّ قطع الطريق على الـمواطنين وإِحراق الدواليب وتعطيل حركة السير فحركة البلد، حتى تتنبَّه هذه الدولة إِلى ما على اليافطات الـمرفوعة من شعاراتٍ ومطالبَ هي في معظمها مُـحقَّة مطالِبَةٌ برفع الجور والقهر والظلم والإِهمال عن الـمعتصمين.
تابعتُ الثلثاء هذا الأُسبوع اعتصامَ الزملاء أَعضاء نقابة الـمُحرِّرين بكل هدوءٍ وكل مظهر حضاريٍّ، ومن دون تهديد وتنديد وصوت صارخ رعديد، مطالبين الدولةَ بشؤُون مِهَنية مُـحِقَّة، في طليعتها: وضعُ قانون عصري للصحافة والإِعلام، دعمُ القطاع الصحافي والإِعلامي وأَعضائه بِـمشروعٍ تَلْحَظه الـموازنة العامة، إِنشاءُ صندوقَين: تعاضدي وتقاعدي للصحافيين والإِعلاميين ومَن إِليهم، تنسيبُ الإِعلاميين إِلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي- فرعِ الـمرض والأُمومة، الإِفراجُ عن مشروع قانون بتعديل أَحكامٍ في قانون الـمطبوعات وإِرسالُه إِلى الـمجلس النيابي، حَثُّ مَـحاكم العمل على الإِسراع في بَتِّ دعاوى زميلات وزملاء صُرِفوا كيفيًّا من مُؤَسساتهم بدون تعويضاتٍ أَو لقاءَ تعويضاتٍ مُـجْحِفة، العفْوُ عن مُـخالفاتِ النشْر وجرائم الـمطبوعات وَفْق نص الـمواد الـمحدَّدة في قانون الـمطبوعات.
سوى أَن الاعتصامَ مــرَّ وعَـــبَـــر. بِسِلْمٍ وسَلامٍ مَــرَّ وَعَـبَــر. غطَّتْهُ وسائلُ مهنيةٌ: مَقرُوؤُها ومسمُوعها والـمرئيّ، وانتهى الأَمر هنا: لا تسكير طرقات، ولا إِحراق دواليب، ولا قطْع منافذ ولا لجنة طلبَت الدولةُ تشكيلَها لـمُتابعة الـمطالب والإِصغاء إِلى أَوجاع جُنُود القلَم.
ولا مَن تَـحَــرَّك. فالدولة، على ما يبدو، لا تتحرَّك إِلَّا بشغَبٍ يعطِّل أَعمال الناس، وبعُنف الصوت العالي والتهديد بأَعلى وأَعنف. لا تتحرَّك الدولة لِـحَمَلة شرَف القلم الذين هُم هُم واجهةُ هذه الدولة ومرآتُها وملازِمو سياسييها ليلًا نهارًا لنقْل الأَقوال والتصاريح والآراء. وإِنني أَراهم مسلُوخين عن بيوتهم صيفًا حارًّا وشتاءً قارًّا، في بيوت السياسيين أَو مكاتبهم أَو مداخل أَمكنة اجتماعاتهم، ينتظرون خروجَهم كي ينقُلوا لِـجريدتهم أَو إِذاعتهم أَو شاشتهم، طويلًا ينتظرون، من أَجل تصريح، وحين قالوا آخَهُم في ساحة الشهداء لم يتحرَّك واحدٌ من أُولئِك السياسيين الذين يتحرَّقون لِمَن يتلقّف منهم تصريحًا، وحين جاء وقتُ إِعادة الفضل إِلى أُولئك الـمنتظرين على أَبوابهم صيفًا حارًّا وشتاءً قارًّا، لم يتحرَّك واحد ليقول إِنَّ هؤُلاء الشبَّان والصبايا الحاملات/الحاملين آلاتِ التسجيل أَو أَمام الكاميرات، لهم حقُّهم برغيف الخبز الذي يُرهِقُ البحثُ عنه لدى السياسيين على أَبواب مكاتبهم أَو بيوتهم.
هؤلاء الجنودُ الـحاملون شرفَ الـمهنة، لا يَــبْلُغ صوتُهم مسامعَ الـمسؤُولين، مع أَن رُسُل الصحافة والإِعلام هم الأَجدى والأَجدر. فالدولة التي تهتمُّ لاعتصامات النفايات والـموظفين والطلاب والأَهالي والعمَّال والـمياومين وجماعات الإِكراء ومحطات الوقود ومقْفلي الشوارع وقاطعي الطرقات وحارقي الدواليب، وجميعم مـحقُّون، ولا تهتم هذه الدولة للمحرِّرين والـمندوبين، هي دولةٌ مهدَّدةٌ بأَن يَـحِلَّ عليها الغَرَق في الصمت الكبير، وهو أَقسى عقاباتها، لأَن دولةً يتوقَّف فيها الـمحرِّر عن رسالته الصحافية والإِعلامية، يتوقَّف نبضها عن الداخل (وهو صعب)، وعن الخارج (وهو أَصعب)، فتنعزل في قَوقَعتِها، ويَطمرُها تَسَارُعُ الزمن في زاوية النسيان.
الزملاء في نقابة الـمحرِّرين، ومن اعتصموا معهم بنُبل الزَمالة وشرف الـمهنة التي ولا أَشرَف، لا صوتُـهم فَلْيَرتَفِعْ بل قَلَمُهُم، لأَن قلمَهُم حين يُقَرِّر الصمتَ ويتوقَّف عن أَداء، يَقْطَع أَوصال الدولة مع العالَـم، وعندئذٍ بِـــئْـسَ دولةٍ تَغْرق في زنزانة السُقُوط مُــنْـــعَـــزِلَـــةً عن العالـم.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib