عن يوميات ماري هاسكل واصفةً مـحترف جبران: “على الجدار قُبالةَ الباب جداريةٌ صفراءُ ساطعةُ التوهُّج، وعلى الجدار الشرقي جداريةٌ قاتِـمَةُ الزُرقة علَّقَ عليها جبران قناعَ الـموت لوَجهِ جميلةٍ غرقَت في نهر السين، وعلى الجدار الغربي قطعةٌ قماشيةٌ من الحرير الأَحمر عليها مُنمنماتٌ يابانية، تحتَها على شرشفٍ شرقيٍّ مطرَّزِ الأَطرافِ قناعُ الـموت لوجه بيتهوﭬِـن. وفي زوايا أُخرى من الـمحترف ثلاثُ قطَعٍ خشبية عتيقة منحوتة، فوقها رفوفٌ تحوي كتُبًا أَبرزُها سلسلة “روَّاد في الفن”.
هكذا إِذًا أَحاط جبران جَـــوَّ الـمحترف بِــهالةٍ رومنطيقيةٍ تُـكَــرِّمُ الجمال بقَدْرما تُـكَــرِّمُ الـموت، في أَعمالٍ تُـجسِّد الفن حتى في رُمُوزٍ للـموت ترتقي بسُكون الـموت إِلى حركة الحياة.
في هذا الجو عاش جبران يوميًّا آخر 20 سنة من حياته كما اختار أَن يعيش: منعزلًا عن عالَـم خارجي نأَى عنه حتى طَـلَبِهِ، في مرحلةٍ أُولى، أَلَّا يُدرج رقم هاتفه في دليل الـمدينة كي لا يُزعجَه الـمتطفِّلون والطارئون فيما يَكتب أَو يَرسم.
هذه الإِحاطة اليومية التي اختارها إِراديًّا على الـمستوى الفردي، محرومون منها نحن على الـمستوى الجماعيّ، أَعني الوطنيّ.
نَـحن محاطون بأَقنعة الـموت من دون أَن نختارَها. وإِذا تقْنيةُ صبِّ الأَقنعة تتطلَّب وضع القالب على وجهِ ميْتٍ فور وفاته، فالأَقنعةُ التي نحن بها محاطون موضوعةٌ قوالبُها على وجوهٍ لا حياةَ فيها سوى نبضٍ في الجسد لا في الضمير.
كيف يمكن الوطن أَن يتقدَّم حين قادَتُهُ أَقنعةٌ لوجوهٍ بعضُها يَـحسر حينًا ثم يتقنَّع، والآخَرُ دائم التَخفِّي تحت القناع، وأَقنعةُ الـموت تَسلخ من الـمواطنين أَملَ الحياة، وتـمتصُّ من شرايين الوطن كلَّ دورةٍ دمَويةٍ لـهذا الأَمل.
كيف للمقنَّعين أَن يُعطوا حركة الحياة، وأَقنعتُهم الفاقدةُ النبض في الضمير تقود من الـموت إِلى الـموت؟
كيف لـمواطنين، تتشكَّل حياتهم اليومية بين أَقنعةٍ جنائزية، أَن يَبحثوا عن الحياة في أَقنعةٍ تبُثُّ الـموت اليومي تنديدًا وتهديدًا وتبديدًا كلَّ حلْمٍ ورجاءٍ بِــغَــدٍ أَفضل من النهار الـمنقضي؟
الـمواطنون لـم يَـختاروا هذه الحياة اليومية، هي الـمَفروضة عليهم وهُم الواقعون بين الخوف والقلق: الخوف من الـمصير والخوف على الـمصير، وليس أَمامهم وجوهٌ بل أَقنعةٌ جنائزيةٌ تُوقِعُهُم في الحزن والكآبة، وفي يأْسٍ يوميٍّ لا فجرَ موعودًا لتبديده.
هل هكذا يستاهل اللبنانيون: أَن يتشرَّدوا في أَقاصي الدنيا رافضين حياةً لـم تَعُدْ فيها وجوهٌ تبشِّر بالحياة بل أَقنعةٌ جنائزيةٌ تقودُ وطنَهم إِلى موتٍ يوميٍّ متعدِّد الأَسباب؟
ذاك الذي عاش عشرين سنةً في محترفه النيويوركي بين قناعَين جنائزيَّيْن يُكَـــرِّم بهما الـموت والجمال، كان يعرف أَنَّ في أَرضه الأُمِّ أَقنعةً لا تُــكَـــرِّم الـموت بل تُسبِّبه قبل أَوانه.
ولذلكَ لَـم يَعُد إِليها إِلَّا… مُطَفأَ العينين، مُـجلَّلًا بقناع الـموت الذي يَسْطع بِــجَمال الحياة.
هـنـري زغـيـب