عند تشكيل كلِّ حكومةٍ جديدة – حين يُقَدِّرُ الله أَن تتشَكَّل بعد طُول مَـخاض عسير مرير – أُتابع بإِشفاقٍ أَلقابًا يُطْلقها السياسيون على الحقائب: هذه حقيبة “وازنة” وتلك “سيادية”، هذه “أَساسية” وتلك “خدماتية”، هذه “رئيسية” وتلك “ثانوية”. ولم أَسمع واحدًا منهم يطالب يومًا بِـحقيبة الثقافة، كأَنها تسكيرةُ “كوتا” طائفية أَو مذهبية أَو حزبية أَو سياسية تُعطى وزيرًا ولو من خارج أَهلها وميادينِ إِبداعهم، وغالبًا ما تبقى مشاريعُ قراراتها في آخر جدول مجلس الوزراء، وإِذا صدَرَت قوانينَ فلا مراسيمَ تطبيقيةً عاجلةً حازمةً لتنفيذها.
غريبٌ هذا الأَمر في وطن ينضَح بالثقافة والإِبداع، والأَغربُ أَلَّا يعتبروا وزارة الثقافة سياديةً وهي وجهُ لبنان الحضاري.
في دوَل تعرف أَهمية الثقافة، تتصدَّر هذه الوزارة حقائبَ تبدو حيالَـها ثانوية.
آخُذُ اتفاقًا نماذج من فرنسا.
في الـمرسوم 59/889 تاريخ 1959/7/24 بــإِنشاء وزارة الثقافة وإِسنادها إِلى الكبير أَندريه مالرو أَديــبًا ومُؤَلِّفًا رُؤْيَويًّا، نَقرأ: “مَهَمَّةُ وزارة الثقافة: تسهيلُ حصول أَكبر نسبةٍ من الفرنسيين على روائع الأَعمال الإِنسانية، بدءًا من تلك الفرنسية، تأْمينُ أَوسع اطِّلاعٍ على تراثنا الفرنسي، تشجيعُ إِنتاج أَعمال فنية وفكرية تَزيد من ثراء هذا التراث”.
في الـمرسوم رقم 82/394 تاريخ 1982/5/10 إِضافاتٌ على مرسوم مالرو نَقرأُ فيها: “مَهَمَّةُ وزارة الثقافة: إِتاحةُ الفرَص أَمام جميع الفرنسيين لـمُزاولة قُدُراتهم على الخلق والإِبداع، إِبرازُ دُرَبِـهم ومواهبهم بدون قيود سلطوية، توفيرُ أَيِّ تَــثَــقُّفٍ فني يختارونه، الحفاظُ على التراث الثقافي الوطني والإِقليمي وعلى إِرث مجموعات اجتماعية فيها فائدةٌ جَـماعية، تأْمينُ إِيصال الأَعمال الفنية والفكرية إِلى أَوسع مساحة من الـمُتَلقِّين، الإِسهامُ في إِشعاع الثقافة والفنون الفرنسية بأَوسع حوار مع ثقافات العالـم”.
في النشرة الدَورية الرسمية لوزارة الثقافة (عددها 110 – آذار 1999) نَقرأُ: “إِنَّ التزامَ الدولة تشجيعَ الثقافة والفنون نابعٌ من وعيها أَنَّ الديمقراطية في تسهيل بلوغِ الجميع الاطَّلاعَ على الآثار الفنية والأَنشطة الثقافية، تغذية النقاش الجماعي والحياة الاجتماعية بعروض شاملةٍ الإِبداعات الفنية، الحرص على أَوسع اعترافٍ بِـحُرِّيَّــةِ الـمبدعين الكاملة في إِبداع أَعمالهم وانتشارها، ضمان الحرية الكاملة لكل مواطن في اختيار مُـمارسته الثقافية”.
وفي فرنسا، كما في سواها، قوانينُ ومراسيمُ وتشريعاتٌ تتيح الوصولَ إِلى الـمعرفة والثقافة والإِبداع فيها ونشْرَ نتاجها الثقافي، لأَنَّ تلك الدول تعرف أَنَّ التراث الثقافي في الوطن هو الأَبقى والأَرقى والأَنقى، وأَنَّ في خدمتِه وحفْظِه والحفاظِ عليه بِـمراسيمَ تطبيقيةٍ وإِجراءاتٍ تنفيذيةٍ حازمةٍ ذاكرةً للوطن خالدةً أَوسعَ مدًى من معظم “إِنـجازات” سياسية تَـموت مع أَصحابها عند انقضاءِ زمانهم، ولا ولن يـبقى في الزمان مُشعًّا إِلَّا تراثٌ ثقافـيٌّ لعباقرةٍ أَبدَعُوه فَخَلَدُوا به، وخَلَّدوا وطنَهم بروائعَ تَتَنَاقَلُها الأَجيال ساطعةً في إِرث وطنِهم وفي ذاكرة العالـم.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib