نزَل العاشقان من الغندول عند محطة جسر رِيالْتُو. استقرَّا عند ناحية قرب درج الجسر. فتحَ السائح حقيبَة ظهره، سحبَ منها سَخَّانةً صغيرةً على الغاز. الحبيبةُ راغبةٌ في فنجان قهوة بعد هذه الرحلة الـمائية في غندول ﭬـــيــنِــيــتْــسِــيــا (أَو “البندقية” باسمها الـمُتدَاوَل عربيًّا). كاد يُشعلُ السخانة حين فوجِئَ بظلال فوقه. التفَتَ فإِذا الظلال أَربعةُ رجال شرطة. “ماذا تفعلان” سأَل أَحدُهم؟ أَجاب الشاب: “فنجان قهوة كما ترى”، سأَل شرطيٌّ آخر: “من أَين أَنتما”، أَجابت الصبيَّة: “نحن أَلـمانيَّان، جئنا نزور ﭬـــيــنِــيــتْــسِــيــا ونتمتَّع برحلةٍ مائيةٍ في غندولها”. انتهى الحوار، وكان كافيًا للإِجراء القانوني: “محضر ضبط بقيمة 950 يورو”. وقبل أَن تسقط الصدمة على السائِحَين من هذا المبلغ الكبير، تلقَّيا الإِجراء القانوني الآخر: “مغادرة المدينة في أَقلَّ من ساعتَين”. ونفَّذ السائحان الأَلـمانيان. لَـمْلَمَا بقيَّةَ ما في حوزتهما من مال، دفَعا الغرامة القاسية، وغادرا المدينة في أَقلَّ من ساعتَين. نعم: كلُّ هذا من أَجل فنجان قهوة!
عن هذا الإِجراء، قال لويدجي برونيارو رئيس بلدية المدينة: “هذا قرار اتخذَتْه البلدية في أَيار الماضي. على السيَّاح أَن يحترموا نظافة ﭬـــيــنِــيــتْــسِــيــا وقوانينَها. الفوضويون الذين يخالفون القانون ويتصرفون بقلَّة ذوقٍ وأَخلاقٍ يوقفهم رجال الشرطة ويعاقِبونهم على تصرُّفهم الأَرعن ويُرحِّلونهم من المدينة. أَرسلنا بلاغًا إِلى السفارات والقنصليات في إيطاليا، أَن تنبِّهَ مواطنيها إِلى أَن ﭬـــيــنِــيــتْــسِــيــا مدينةٌ سياحية فريدة ونظيفة، ولن نرضى بأَن يوَسِّخ مترًا واحدًا منها قليلو التهذيب ولو بورقة صغيرة، كي تبقى مدينتُنا تستقبل السيَّاح بوجهها النظيف”. وأَكثر: صَوَّرَ رجالُ الشرطة السائحَين الأَلـمانيَّين أمام السخَّانة الصغيرة، وأَرسَلوا صورتَهما إِلى رئيس البلدية الذي أَرسلها بدوره إِلى سفارة أَلـمانيا في روما كي تهتمَّ السفارة بإِجراءات ترحيل مواطنَيْها. ونشَر الصورة على التْوِتِـر كي يكون المخالفان عبرةً للسياح المتنقِّلين في أَرجاء المدينة بـرًّا أَو ماءً في القوارب السياحية. وكتب رسالةَ تهنئة إِلى رجال الشرطة الأَربعة لسهرهم على نظافة المدينة، وخصوصًا حول جسر رِيالْتو، أَشهر جسور المدينة الأَربعة، جمالُه الهندسي رائع، يرقى بناؤُه إِلى منتصف القرن السادس عشر (1588)، وهو من أبرز معالـم الجذب السياحي في هذه المدينة الـمائية.
ومن إِجراءت القرار البلدي أَيضًا للحفاظ على الأَمن ونظافة المدينة وسلامة المواقع السياحية فيها: “منعُ الجلوس في الزوايا وفلْش مربعات الطعام، منعُ تَـجَوُّل الرجال بصدور عارية، منعُ الاغتسال أَو غسل اليدَين بمياه القناة أو بالنوافير في أنحاء المدينة، منعُ رمي النفايات على الأَرض أَو من القوارب إلى مياه القناة مهما كان صغُر حجم هذه النفايات”. هكذا، كما شرح رئيس البلدية: “نحمي من المخالفات مدينتَنَا السياحية الفريدة، ونأْمَن نظافتَها مع تدفُّق 30 مليون سائح سنويًّا إِلى قلب المدينة وأَرجائها وقناتها وقواربها التاريخية. ورجالُ شرطتنا ساهرون على كل سائح مُـخالِف، كي يجزَّى بغرامة مالية قاسية ويرحَّل فورًا من المدينة.
هذه مدينةٌ تفرض القانون. هذه مدينةٌ شرطتُها ساهرة على تطبيق القانون. هذه مدينةٌ لا تسمح أَن تتراكم فيها النفايات. هذه بلاد تدعو إِليها السياح ولا تتضمَّنُ دعوتُها إِياهم تنشُّق الهواء الملوَّث، ولا النُفايات في الزوايا، ولا حريق النفايات على جوانب الطرقات العامة، ولا تلوُّث مياه بحرها برغوة معامل الكهرباء وبمياه الصرف الصحي تصب في البحر.
تلك مدينة وتلك بلاد. والسلامُ على بلاد عند الطرف الآخر من شاطئِ المتوسط، تُصبح النفايات فيها منظرًا يوميًّا عاديًّا، ويصبح القانون فيها وُجهَة نظرٍ استرضائية باسم الديمقراطية التوافقية، ويُصبح النجاح فيها خاضعًا للتوازن الطائفي، ويصبحُ انعقاد مجلس الوزراء فيها حدَثًا سعيدًا يفرح به المواطنون.
هـنـري زغـيـب