العابرون الجادَّةَ الرئيسةَ أَمام متحف بْرُود (Broad) في لوس إِنْـجلس (كاليفورنيا) حين تُضيْءُ أَخضرَ الـمُشاةِ الإِشارةُ الكهربائية، يَـمْشُون على سجَّادةِ أَلوانٍ فرحَةٍ جميلةٍ خطَّطَ بها عرضَ الشارعِ الرسامُ الـﭭـنزويلي كارلوس كروز ديـيـز (Cruz-Diez) الذي توفي عن 95 سنة هذا الأُسبوع في ﭘـاريس (الـمُقيم فيها منذ غادر كاراكاس سنة 1961). وهو خطَّط بالأَلوان أَيضًا شارعَين أَميركيَّيْن رئيسَين: في ميامي وهيوستن، يعبرهما الـمُشاة كما في حوارٍ بين أَقدامهم وبَـهْرجةِ الأَلوان في خطِّ الـمرور بين الرصيف والآخَر الـمُقابل عند الضفة الأُخرى من الشارع.
أَلوان فقط؟ نعم أَلوان فقط. فهو صاحبُ نظرية تشكيلية جعلَــتْــه أَحد أَبرز فناني القرن العشرين، وَفْق قَولَتِه إِن مسيرته اللونية التجريدية “قامت على إِبراز اللون موقِفًا مستقِلًّا لا جامدًا بل متحرِّكًا بكياناتٍ نابضةٍ تُولَدُ لـزمانٍ ومكانٍ مُعيَّنَين في حاضرٍ متواصلٍ لا ماضٍ له ولا مستقبل، وهي كياناتٌ لونيةٌ مستقلَّةٌ عن أَيِّ شكلٍ يُعطاها أَو مضمونٍ ذي تفسير. إِنها العلاقة الجدلية الـمُباشِرة بين الأَثَر الفني والمتلقِّي، علاقةٌ حُرَّةٌ تترك للمُتَلَقِّي فسحةً مَعرِفيةً واسعةً من الشعور حيال العمل الفني”.
معادلة طليعية جاء بها كروز ديــيـز، فاصلًا بها اللونَ عن مضمون يَـحملُه، حتى حين لا مضمونَ له. الـمُهمُّ: ما يُوَلِّده اللون في شُعور الـمُتلقِّي. اللون عاريًا من أَيِّ تعبير شكلاني أَو مضموني. اللونُ الأَصل. اللونُ اللغة. اللونُ الذي ليس “مُتمِّمًا” ولا “تابعًا”. له حياتُه الخاصة الـمُستقلَّةُ بِـمعانيه الخاصَّة.
هنا قمَّة التجريد: حريةُ اقتبال اللون في ما “هو” لا في ما “يقول” من مضمون. وإِنها جرأَةٌ من كروز ديــيـز أَن “يَفْصل” اللون عن أَيِّ مضمون. أَعطى اللونَ بُعدًا فلسفيًّا يتابعه زوَّارٌ الـمَتاحف العالـمية الكبرى التي تسكن فيها لوحاتُه.
أَيكونُ اللونُ غايةً لا وسيلة؟ بل هو كلتاهما معًا. حين لا يحمل مضمونًا، هو غاية. وحين “يروي” مضمونًا، هو وسيلة.
أَيكونُ اللونُ تَـجريدًا في ذاته يَنتظر أَن يَلْبس شكلًا أَو مضمونًا، أَو يتحاور مع لونٍ آخر فيتولَّد من حوار الأَلوان لونٌ جديد؟ مُـمكن. إِنما وَفْق وظيفية هذا اللون الـجديد.
تَـمامًا كما الـحَرف: هو في ذاته تجريد. لا مضمونَ له إِلى أَن يتزاوج مع حرفٍ آخَر أَو حُروفٍ أُخرى فَتَتَوَلَّد الكلمة، ومن الكلمة تَبدأُ رحلة الـمضمون في حلقةِ كلماتٍ تُوَلِّدُ الـمعنى أَو معنى الـمعنى. هنا تَتَجلى غائيَّةُ اللون والحرف.
الرسامُ سيِّدُ الأَلوان كما الكاتبُ سيِّدُ الحروف. من هنا القاعدة: الأَداءُ ليس “ما” هو اللون أَو “ما” هو الحرف، بل “كيف” يَـخرُج اللون (وحده أَو مع إِخوةٍ له) من ريشة الرسام، و”كيف” يَـخرُج الحرفُ مع إِخْوَته من أَنامل الكاتب. عندها مهمَّةُ الحرف أَو اللون تَكتملُ في الولادة فيتواصل معها الـمُتلَقِّي في دَفْق الحياة.
هـنـري زغـيـب