“نقطة على الحرف” – الحلقة 1412
… وهنا سَبَبُ العلَّة يا فخامة الرئيس
إِذاعة “صوت لبنان” – الأَحَــد 19 أَيار   2019

بعد حلقة الأَحد الماضي (12 أَيَّار) من “نقطة على الحرف” (“قطاع بسَمْنة وقطاع بـزيت”) وصدُورها على أَكثرَ من موقعٍ للتواصل الإِلكتروني، توالَت علـيَّ ردودٌ إِيجابية على ما ورد فيـها من أَنَّ “لبنان يُنقذُهُ خبراء متخصِّصُون لا سياسيون تنظيريون”، وأَنَّ “لبنان لم يشهد فـي أَيِّ عهدٍ هذه السلاسلَ الـمتلاحقة من الإِضرابات والتظاهرات عند تحضير موازنة الدولة”، وأَنَّ “هؤُلاء الذين يطبخون موازنة لبنان منذ أَيام طويلة هل هم حقًّا اختصاصيون؟”. وكان ذلك طبيعيًّا لأَن تلك الردود عكَسَت ما يفكِّر به المواطنون وما منه يَشكون ويُعانون. غير أَنَّ الـمفاجـئَ وُرُودُ  رُدُود سلبيةٍ مدَّعيةٍ أَنني من جماعة الذين لا يعجبُـهم عجب، ومن فئة الانتقاد الـمجاني لـمُجرَّد الانتقاد.

عجبًا لـهـذا المنطق في زمن انعدام المنطق!

كأَنَّ هؤُلاء لا يعيشون ما نَعيشه، ولا يُشاهدون ما نُشاهده، ولا يُعاينون ما نُعاينُه من جلساتٍ متتالية نـهارية ومسائية وليلية لـمجلس وزراء يجتمعون ويتناقشون ويتطارحون الأَفكار ويعرضون الحلول ويقدِّمون الاقتراحات، ثم يَطلعُون على الناس، اجتماعًا بعد اجتماعٍ بعد اجتماع، ليُخبروا المواطنين الأَعزاء أَنهم ما زالوا يجتمعون ويتناقشون ويتطارحون الأَفكار ويعرضون الحلول ويقدِّمون الاقتراحات.

وما كنا نتلقَّـى هذه التصاريح بالشك والقلق لو انَّ بين أُولئِك اختصاصيين في الشأْن يضعُون تَصوُّرًا للدولة لا للميزانية، للمعايير الدائمة لا للاجتزاءَات الـمُوَقَّتة، لقواعدَ ضريبيةٍ مدروسةٍ عوض هذه الـلامدروسة كــترقيعِ حالةٍ من هنا وحالةٍ من هناك، تخفيضٍ من هنا وزيادةٍ من هناك، إِعفاءٍ هنا وإِرهاقٍ هناك، بحثٍ عن النتيجة لا تصويب السبب، انقباضٍ في المعالجة وانقضاضٍ على رواتب وتعويضات، تهذيبٍ في مفردات التبرير وتعذيبٍ في الحسم والإِنقاص والتسلُّل إِلى فوائد الـمُوْدِعين،… وفي كل هذه التخريجات لا مقياسَ واحدًا لمعاملة الناس جميعًا فـي ميزان واحد، بل تفكير في الْتِــهام الـمُدَّخرات عوَضَ التفكير في سَدّ دهاليز الهدر والمخصَّصات والاختلاسات والصفقات والعمولات والتـهرُّبات والاستثناءات وما إِليها، ثم الخروج بقرارِ أَن يَدفع معالي الوزير أَو سعادة النائب جمركًا على سيارته واعتباره إِنجازًا يجب أَن يصفِّق له المواطنون لأَن أَصحاب المعالي والسعادة تنازلوا وتواضعوا إِلى مستوى الناس الذين يدفعون الجمرك على سياراتهم.

لا نريد أَن نكون سلبيين، ولكنْ كيف نُفسر أَنَّ الوزراء يجتمعون في الداخل، يعصرون أَفكارهم ومواهبهم، وفي الخارج أَفواجُ الـمُضْربين والـمُعتصمين والـمُتظاهرين ينادون بالتـهديد والوعيد والتصعيد بالإِضرابات المفتوحة؟

كيف نُفسر أَنَّ الوزراء في الداخل يتخبَّطون في جوجلة الأَفكار، وفي الخارج الناس يتخابطون في الدفاع عن رمَق العيش ورغيف الخبز، لفقدانـهم الثقةَ بـهؤُلاء الذين في الداخل يَطبخون الميزانية ويتعثَّرون ويتضعضعون ويتناحبون بأَن الأَرقام ما زالت دون المطلوب؟

فقدان الثقة؟ طبعًا فقدان الثقة. وكيف يثِقُ الناس بـهؤُلاء المجتمعين في الداخل وليس فيـهم خبيرٌ فـي الشأْن المالي والاقتصادي ويتنطَّحون لإِيجاد الحلول واجتراح المقايـيس والمعايير والنُظُم للشأْن المالي والاقتصادي؟

هل يكفي أَن يَنُطَّ واحدُهم من مقعد النائب إِلى مقعد الوزير كي يُصبح مرجعًا ماليًا واقتصاديًّا وموازناتيًّا يُعَوَّل عليه؟

وهل طبيعيٌّ أَن يتمَّ اختزالُ الخبراء الاختصاصيين في الوطن بثلاثين وزيرًا و128 نائبًا؟

هل فكَّرَت الدولة باللجوء إِلى خبراء اختصاصيين لبنانيين عوَضَ اللجوء إِلى دراسات أَجنبية “ماكنزية” تُرهِق الدولة بتكاليف مرعبة؟

هل تفكِّر الدولة بإِجراءِ استفتاءٍ “بْــرِكْـزيــتي” واحد تُصغي فيه إِلى أَصوات الناس وهمُومِـهم وأَوجاعهم وقَلقَهم على مستقبلٍ مرعِبٍ يَقودُهم إِليه هؤُلاء الـمُنظِّرون الـمُمْسكون بقيادة الوطن؟

“المطلوبُ إِعادةُ ثقةِ المواطنين بالدولة”. قالها بصراحتِهِ رئيسُ الجُمهورية.

صحيح.

لكنَّ العلَّةَ الرئيسَةَ ليست في “ما يجبُ أَنْ”، بل فـي “مَن يَعمَل علـى أَنْ”.

وهنا سَبَبُ العلَّة يا فخامة الرئيس.

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib