في الثلاثينات من القرن الماضي كان في بيروت لُؤْلُؤَةٌ معماريةٌ فريدةٌ في الشرق اسـمُها “التياترو الكبير”. يومُ تدشينه سنة 1929 كان حدَثًا مُـجَلَّلًا بتوقيع مهندسه اللبناني يوسف أَفتيموس (1866-1952) مصمِّم مبنى بلدية بيروت و”بيت بيروت” وبرج الحميدية في السراي الكبير.
انطلق “التياترو الكبير” بالمسرحية الغنائية الأَميركية “لا… لا يا نانيت” مباشَرةً بعد نجاحها الـمُدَوِّي على أَحد أَرقى مسارح برودواي. وبالتجهيز الطليعيِّ عصرئِذٍ، سُـمِّيَت الصالة “تياترو أَلف ليلة وليلة” لفخامة مقاعدها وشُرُفاتها ومقصُوراتها، وقُــبَّـتها التي تنفتح صيفًا للتبريد والتهوئَة، فكانت جوهرةً مُثلى للدورة الثقافية في لبنان خشبةَ مسرح، وشاشةَ سينما، ومنبرَ احتفالات، فَشَعَّت منارةً في بيروت يرنو إِليها الآلاف قاصدينَها من كلِّ بلدٍ لبرامجها التي كَــرَّسَت مدينتَنا الغالية عاصمةَ الشرق.
على مسرحها قدَّم يوسف وهبي أَعمالَه، وفرقةُ “الكوميدي فرانسيز” روائعَها، و”باليه الشانزيليزيه” عُرُوضَها، وغَنَّى محمد عبدالوهاب وأُمُّ كلثوم. وعلى شاشتها كان العرضُ الأَول لفيلم “غادة الصحراء” (1929) مع اللبنانيَّتَين آسيا داغر وماري كويني، وفيلم “أُنشودة الفُؤَاد” (نيسان 1932) للُبنانِـيَّـي الأَصل جورج أَبيض ونادرة “أَميرة الطرب”، وذكَرت الصحافة أَنَّ “خمسة عشر أَلف متفرِّج أَقبلوا على مشاهدته في الأُسبوع الأَوَّل ما دفع إِدارة الصالة إِلى تمديد عرضه ثلاثة أَسابيع”. ثم كان فيلم “الوردة البيضاء” (1933) أَوَّل عمَل غنائي لمحمد عبدالوهاب، أَدَّى فيه من شِعر الأَخطل الصغير، وعن صُحُف تلك الحقْبة أَنَّ “الجماهير زحفَت إِلى التياترو الكبير لـمُشاهدة هذا الفيلم الذي، على أَثَره، باع مـحَلّ دباغيان (شارع اللنبي) من إِنتاج شركة بيضافون آلافَ الأُسطوانات وعلى غلافها صورةُ وردة بيضاء”.
وإِلى تلك الصالة الفخمة، مساءَ الجمعة 21 آب 1931 انتقَل حشدُ اللبنانيين من كاتدرائيَّة مار جرجس تاركين جُثمان جبران خليل جبران مسجًّى في الكنيسة (بعد وُصول نعشه صباحًا إِلى مرفإِ بيروت على متن الباخرة “سينايا”) ودخَلوا يتابعون المهرجان التأْبيني الذي حضره رئيس الجمهوية شارل دباس ومعَه في المقصورة الخاصة المطران أَنطُون عريضة (البطريرك لاحقًا) ووزيرُ الداخلية موسى نَـمُّور، وفي المقصورة الـمُحاذية جلسَت مريانا شقيقةُ جبران. بعد عزف نشيدٍ خاص بالمناسبة لوديع صبرا، تَوالى على المنبر جبران تويني (وزير المعارف)، أَمين الريحاني، خليل مطران، ميشال زكُّور، الأَخطل الصغير، الياس أَبو شبكة، وآخرون من كبار أَعلام الشعر والأَدب.
هذا بعضٌ وميضٌ من مَـجد “التياترو الكبير”، الصرح اللبناني الـمُشِعِّ من ذاكرة بيروت الثقافية والفنية وذاكرة المسرح والسينما والأَدب في لبنان. صَعَقَتْهُ سنوات الحرب وما زال جسَدًا دون الروح، معلَّقًا على انتظارِ أَن يَعودَ إِليه نبْضُ روحِه فيُعيدَ الأَلَق إِلى الـمَشهدية الثقافية اللبنانية بـجميع عناصرها، لا بــرمزية بِنائِه الـمِعمارية وحسب بل بـحيَويَّـته المفقودة التي بِـعَـودَتِـها تتشكَّل حالةٌ فريدةٌ في بيروت جامعةً في حَـرَمها باقةً رائعةً من أَرقى الفنون.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib