“أزرار” – الحلقة 1085
الإِنسان هذا الـمَجهول
“النـهار”  –  السبت 18 أَيار  2019

      قرأْتُ قبل أَيام، في موقع “ناشيونال جِــيُــوغرافِك”، تحقيقًا عن هَرَم الجيزة الأَكبر، وهو أَقدمُ عجائِب الدنيا السبع في العالم القديم، منذ سنة 2560 قبل المسيح، وفيه ناووس الفرعون خوفو. وأَبرز ما في التحقيق أَنَّ تشييد الـهَـرَم استغرق عشرين سنة، واستلْزَمَ نقْلَ ستة ملايين طنّ من الحجارة والصخور الصلبة لـرَصْفها بهذا الشكل الدقيق.

         بقي ذاك النقْلُ سرًّا غامضًا حَـيَّر المؤَرِّخين والخبراء حتى انكشف أَنَّ تلك الصخور هي من مقالع الحجَر الجيري في طُــرَّة (عند منتصف المسافة بين القاهرة وحَلوان)، وأَن نقْلَها تَـمَّ في أُسطولٍ من مراكبَ أَمَر خوفو ببنائِها من خشب خاص وَجَد الـمُنقِّبون بقايا من عوارضه في حفرياتٍ عند أَسفل الـهَـرَم.

         يستوقف في كلِّ هذا، نقْلًا وتشييدًا، أَنه تَـمَّ قبل خمسة وأَربعين قرنًا، في تلك العصور البدائية وكلُّ ما فيها قائِــمٌ على قوَّة الزُنود البشرية عهدَ لا آلات ولا معدَّات ينعَم بها العصر اليوم.

         السِرّ؟ ما سوى العزم والـمُثابرة والاستمرار والثبات، والإِرادة التي لا تنكسر حتى يتمَّ ما يجب أَن يَـــتِمّ. وهنا تحضرني مقولة آينشتاين: “الـمُثابرةُ هي القوةُ الأَقوى في الأَرض، بها يُـمكن نقلُ الجبال”، وهي جزءٌ مبسَّطٌ من مقولةٍ وَرَدَتْ في إِنجيل متى: “… ثم تقدَّم التلاميذ إِلى يَسُوع على انفرادٍ وسأَلُوه لِـمَ لَـمْ يستطيعوا إِخراج الشيطان من جسد المريض، فقال لهم يسوع: “لعَدَم إِيـمانكم. الحقَّ أَقولُ لكم: لو كان فيكم إِيـمانٌ بِـحَجْم حبَّةِ خردل، لكُنتُم تقولون لهذا الجبل: انتَقِلْ من هنا إِلى هناك، فينتقل ولا يكون لديكم مستحيل” (الإِصحاح 17 الآيتان 19 و20).

         هنا السرُّ إِذًا في تلك “القوَّة العظمى ذات الأَجنحة النُعماوية”: الإِيمان، الإِرادة، الـمُثابرة، العزْم، الثَبَات. وبهذه الأَجنحة يعلُو الإِنسان عن أَحداثه الطارئة حتى يلويها فلا تلويه ولو آلت به لاحقًا إِلى لحظة الموت. وفي إِحصاءات علمية وتقاريرَ موثَّقة وحالات دامغة: أَنَّ الإِنسان، بتلك “القوة العظمى ذاتِ الأَجنحة”، يمكنه أَن يتغلَّبَ على المرض مهما تشبَّثَ سرطانُه. وكم حالةٍ نعرف عنها تُؤَكِّد شفاءَ مريضٍ قاومَ المرض بِــإِرادته القوية وعزْمِه على الحياة.

         نقْلُ ستة ملايين طنّ من الصخور، وراءَها قوَّةُ العزم، وكذلك بناءُ رائعتنا العالَـمية: هياكل بعلبك ومثلُها عجائب الدنيا قديمها والحديث، وراءَها تلك “القوةُ العظمى ذاتُ الأَجنحة”، بدونها لا يعلُو بناء ولا يكونُ شفاء. وحين كَتَب أَلِكْسي كارِيل رائِعته “الإِنسان هذا المجهول”، كان يُضمِر أَنْ ليس ما يفكُّ مَـجهوله إِلَّا تلك القوة.

         غير أَن وراءَ تلك “القوة العظمى” قوةً هي الـمَصدرُ واليُنْبُوع. إِنها قوة الحب.

         الحب – وأَعظَمُهُ بين رجلٍ وامرأَة – وحدَه نبعُ العجائب الـمُجتَرِحُ ما لا تستطيعُهُ أَيُّ قوة، ووحدَه القادرُ على نقْل الصعوبة من الـمُستحيل إِلى الـمُمكن.

هـنـري  زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib