صباحَ الخميس الماضي، ومن زاوية “أَسرار الآلهة” في جريدة “النهار”، قرأْتُ الخبر التالي: “كشفَت النقاشات حول الموازنة مَكامنَ هدْر الأَموال العامّة لِـجهة التفاوُت الكبير في الرواتب بين موظَّفي الفئة الواحدة”.
لعلَّ في هذا الخبرِ القصيرِ بلاغةَ الإِيجاز عـمَّا تتخبَّط فيه الدولة حاليًا من رمالٍ متحرِّكةٍ تُصارعُ أَذرعُها بعضُها بعضًا للخروج منها، ولا ندري بعدُ بأَي ثمنٍ فاجِع أَو ناجع.
لستُ أَذكُر أَنَّ عهدًا في لبنان، لدى مناقشة الموازنة، شهِدَ هذه السلاسل المتلاحقة من الإِضرابات والاعتصامات والتظاهرات، بعضُها مُـحِقٌّ، والآخَرُ متسرِّعٌ متنطِّحٌ في غير محلِّه ولا مـبـرِّرَ له قبل إِقرار الموازنة والتأَكُّدِ من بنودِها.
على أَن العلَّة، في كلِّ ما يجري، تكمُن في جرثومة واحدة: غيابُ المعيار الواحد والمقياس الواحد والمكيال الواحد، وهو ما كان يُـحِـيل إِليه الرئيس فؤَاد شهاب في عبارته الشهيرة: “راجعوا ما يقول الكتاب”.
صحيح: مشكلتنا ليست في الدستور، وهو من وضْع عباقرةٍ في الدستور، بل هي في سوء تطبيق الدستور إِكرامًا وإِرضاءً وإِنفاذًا لرغبات طبقةٍ سياسية ظلت تنخُر في جذع الوطن حتى نخرتْه السوس.
ذلك أَنَّ غياب الدولة، منذ عهودٍ، عن تطبيق المعيار الدستوري الواحد، هو الذي أَفضى إِلى ما نشهدُه اليوم من إِضرابات وتجمُّعات واعتصامات وتظاهرات وتحركات واعتراضات واحتجاجات وإِقفال طرقات وهدْر مئات الملايين والمليارات واغتصاب الـمَلاكات والتملُّكات والاستملاكات وفرض الإِصرارات وبُروز الزبائنيات وسوء احتساب الإِيجارات والاستـئْجارات والتعاقُدات والتقاعُدات وغياب الإِصلاحات وهزال الإِجراءات ورَواج التنفيعات واغتيال التحفيزات وتَسكُّع السياسات في الاقتصاديات والماليات وازدياد الانزلاقات وزيادة المناكفات وتَوَسُّع البلبلات وفوضى التخفيضات والتنزيلات وعُقْم المناقشات ولاجدوى الجلسات واللقاءات وفراغ المفاجآت وتَعَــثُّــر التطمينات وبَلبَلة التقشُّفات وتَلَبُّد الضبابيات وفقدان العلاجات وفقْد المعالجات وفشَل العمليات وتَـمَدُّد الاستـئْـثـارات وشراهة الاستغلالات وصدمة المستجدات وفقْر التقديمات والتقدمات ورتابة التجديدات والاختلاف على الشُطور والحسومات والضعف في نسج الموازنات والتوازنات والنزاع على المخصَّصات والاستـثـناءات وارتباك التعليقات وسياسة التأْجيلات والتخبُّط في التعديلات واللاعدل في التعويضات بين فئاتٍ وفئات والبوليسية “الكاجيبية” في ملاحقة التسريبات وهباء اللقاءات وتصاريح الديوانيات وتَشوُّش الاتصالات وانقطاع المواصلات… حتى وصلْنا إِلى هذه الحالة التي هي أَسوأُ الحالات.
خلاصةُ الخلاصات: الدولة التي لا تُخطِّط ميزانيتَها خمسيًّا أَو عشريًّا، ستبقى عشائرية الحسابات، قبائلية الاحتسابات، مزرعية المحسوبيات، ولا أَمل في قيامها من رمالها المتحركة إِلَّا بتسليم شُؤُونها إِلى رجالِ دولةٍ خُبَراء مُنَزَّهين عن المحسوبيات، لا إِلى رجال سياسةٍ محدودةِ الرؤْية محصورةٍ في حسابات دَفتَرية لا ترى في عقلها المحدود سوى ﭘــوانتاجات الموسم المقبل من الانتخابات.
وكلُّ موازنةٍ وأَنتُم بعيدون عن رجال السياسة حين يُـخَـــيِّـــطُون الـمُوازنات.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib