تابعتُ عن بُعدٍ مشهدَ الاحتفال بالمئوية الثانية للمعلِّم بطرس البستاني. وبين خُطباء الاحتفال، أَو كُتَّاب خُطَبِهِ، أَو ذاك الحضور السياسيِّ الحاشد يومها، لا أَعرفُ كم واحدًا منهم قرأَ ولو كتابًا واحدًا من مؤَلَّفات الـمعلِّم بطرس، عدا مقتطفاتٍ منثورةٍ هنا وهناك شكَّلت أَسطُـرًا عابرةً في تلك الخُطَب، وأَكْمَلَت التفاصيلُ السياسيةٌ إِلى أُمورٍ من واقع لبنان اليوم.
المعلِّم بطرس أَعمقُ بكثيرٍ من تَنَاوُلِهِ بأَسطُر عابرةٍ في خطابٍ سياسيّ، لأَن في كلِّ ما خَطَّه عنوانًا يستحقُّ التوقُّف عند رُؤْيَويَّــتِــه الطليعية عصرئِذٍ، والعَثْمَنَةُ نادرًا ما كانت تُتيح انفتاحًا على وسْع الطُّموح. ففيما كان الوطن رازحًا تحت نير السَلْطَنَة، كان قلمُ المعلم بطرس، بتوقيعه “مُـحِبّ الوطن“، يَرفع النير كي يرى أَبعدَ منه ما يستاهل أن يكون اليوم منارةَ استرشادٍ وميناءَ رُسُوّ.
من ذلك: أَمامي في “نفير سوريا” خطبتُه الرابعة نهار الخميس 25 تشرين الأَوَّل 1860، ومنها: “يا أَبناءَ الوطن، من حقوق الوطن لأَبنائِهِ مَنْحُهُم الحريةَ في حقوقهم الأَدبية والـمَدنية والدينية، ولا سيما حرية الضمير في أَمر المذهب، وما أَكثر الذين ذهبوا شهداءَ هذه الحرية“. ونسأَل اليوم بعد 160 سنة: أَين نحن اليوم من حُرية المذاهب، ووطنُنا غارقٌ في الطائفية، مُـحاصِرٌ أَبناءَه، مانعًا إِيَّاهم من زواج مَدَني اختياريّ هو أَلفباءُ الحقوق في الحرية الدينية كما نادى بها المعلِّم بطرس.
وفي تلك الخطبة الرابعة ذاتها نقرأ: “يا أَبناءَ الوطن، نُـحَـذِّرُكُم من أَربعة أُمور: التَعَنُّت، التَحَكُّم، التَعَـصُّب، البُطْل. فإِنها ليست من الخير في شَيْء. ونُنَبِّهُكُم إِلى الكلمة الذهبية: كما تريدون أَن يَفعلَ الناس بكم، هكذا افعلوا بهم أَنتم أَيضًا“.
أَيضًا وأَيضًا نسأَل اليوم بعد 160 سنة: أَين وطنُنا اليوم من تلك الأَربعة الأُمور، ونحن نعاين التَـعَـنُّـت في التَمَتْرُس السياسي، والتحكُّم برقاب الناس في ارتجالاتٍ سياسيةٍ تَقودهم إِلى الإِفلاس أَو الهجرة، والتَـعَـصُّب الديني الذي يتحكَّم بجمهور المؤْمنين من كل مذهب، والبُطْل الـمستشري في مفاصل الدولة فسادًا وهدرًا، وضربًا على الصدور علامةَ الإِيمان مِـمَّـن هُم أَبعدُ الناس عن الإِيمان. أَما تلك الكلمة الذهبية كما نَــبَّــه إِليها المعلِّم بطرس، فليتها تُستجابُ ويَفعل الناس في معظم أَهل الحُكْم ما يفعلُه بهم أَهل الحُكْم، فيما القمعُ الـمُقَنَّع منتشرٌ في الأَروقة والممرات والغُرَف الـمُغْلَقَة، ويدَّعي عفَّةَ العمل لـ”مصلحة الوطن والـمُواطنين” مَن هُم أَبعدُ الناس عن العفَّة.
وفي استشهادٍ أَخيرٍ من المعلِّم بطرس: “إِنَّ بلادَنا المشهودَ لها بأَنها من أَحسَن البلدان، مضَت عليها أَجيالٌ كثيرةٌ لكنها باتت عرضةً لفساد قومٍ من أَهلها، لذا تَرَونها متأَخِّرة عمَّا سواها من البُلدان“.
كان هذا الكلام قبل 160 سنة. واليوم لم يَــبْــقَ أَحدٌ من أَهل الحُكْم إِلَّا وشَــمَّــرَ عن ساعدَيه ليُحاربَ الفسَاد ويوقفَ الهدْر، ومعظمُهم بيلاطُسِيُّون يَغسلُون أَيديهم من دم الصِدِّيق، وليس فيهم يُوضاسٌ واحد يستحقُّ حتى التعليقَ على التينة اليابسة.
تلك لَـمحةٌ بسيطةٌ جدًّا من هذا الرُؤْيويِّ الذي يحتفل لبنان بِـمئَويته الثانية.
الـمُتَهَــيِّــئُــون لاحتفالاتٍ مقْبلة في مئوية المعلِّم بطرس الثانية، فَــلْــيَــتَرَجَّلوا عن الـمَنابر الخطابية والكلمات التحليلية والاحتفالات الكرنـﭭـالية، وَلْـيَـكْـتَـفُوا بالعودة إِلى نصوصِهِ بدون أَيِّ تعليقٍ ولا تحليلٍ ولا خُطَبٍ منبرية، ففيها وحدها ما يكفي زادًا لِـمِــئَــويَّــةٍ مُقْبِلة.
ويا ما أَهنأَ وطنًا يَنْبَني على نصوصٍ إِصلاحيةٍ وطنيةٍ متجرِّدةٍ بَـــنَّاءَةٍ خَطَّها قبل قَرنَين مُـحبُّ الوطن المعلِّم بطرس البستاني.
هـنـري زغـيـب