في الذكرى الثانية لغياب نقيب الصحافة محمد البعلبكي، وبين الـخُطَب التي شهدها يومها المركز الثقافي الإِسلامي، لفـتَـتْـني كلمة الرئيس تَـمَّام سلام لِـما جاء فيها، على اقتضابها، من نهج كامل للحكم الرشيد الحازم على اعتدال.
مما جاء في تلك الكلمة عن أُصول الحُكم أَنه: “في العودة إِلى المرجعيات الدستورية التي تحدد أُصول الحكم، وإِلى النصوص القانونية التي ترسم الأَدوار وتحدِّد الصلاحيات والمسؤُوليات. وإِننا في حاجة إِلى خفْض الصوت قليلًا، والتواضُع كثيرًا، والتبصُّر طويلًا في مشاكلنا التي تحتاج معالجتُها إِلى مسؤُولية عالية“.
بلى: إِنه نهجُ حُكْمٍ كاملٌ هذا المقطع. فالعودة إِلى المرجعيات الدستورية تُلغي الاستِــئْـثــار بالآراء الـمرتجلة، واحترام النصوص القانونية يُلغي التنطُّح لاجتهاداتٍ عقيمة يتنافس على التداول بها من يملأُون الشاشات تنظيرًا وتقريرًا. ولعلَّ أَهمَّ ما جاء: “حاجتنا إِلى خفض الصوت قليلًا والتواضع كثيرًا“. وفي هذه العبارة مكمَنُ عِلَل كثيرةٍ يعاني منها الوطن اليوم.
نعم: خَفْضُ الصوت حيال الأَصوات العالية التي تتناطح من أَجل الاستئثار بالرأْي الواحد الأَحد، والتواضع حيال رؤُوس منفوخة وعقول مشروخة وادعاءَات مرفوخة لـمصادرة القرار بِـحجة القُربِ أَو القربى، ما يخلق ردودَ فعلٍ مضادَّةً تزيد من التشنج والتوتر.
التواضع، نعم.
التواضع في السياسة فلا يتجاذبُ الحُكْمَ أَطرافٌ يشدُّ به كلٌّ من صوبه حتى يتمزَّق النسيج فلا لُـحْمة فيه بعدذاك.
التواضع في الصحافة والإِعلام فلا يكون السَبَقُ الصحافي اختلاقًا وكذبًا وخَيالًا مُدَمِّرًا صورةَ شخصيةٍ أَو تيارٍ أَو وطن، لأَن الشائعة المختَلَقَة أَو التصريح الـمُفَبرَك أَو التحليل المدسوس: عناصر قد تفجِّر وضعًا يبدأُ شرارةً وقد ينتهي حريقًا هائلًا تصعب السيطرة عليه قبل انــتــثــار الرماد وانــتــشار الدمار.
والتواضع في منصَّات التواصل الاجتماعي حيث كلٌّ ينشر ما يرغب أَو يريد أَو يدسُّ أَو يكذب، فتنتشر الأَنباءُ الكاذبة الـمُضَلِّلة الـمُؤْذية بسرعة الإِقناع الفردي والجماعي وليس من يُلَمْلِمُها، وتهبُّ موجة هائجةٌ هائلةٌ تعلو فتجتاح الشواطئ والبيوت.
بلى: تَـمَّام سلام، هذا المعتدِل الرصين المسؤُول الذي حارب التطرُّفَ بالصمت والمغالاةَ بالحكمة، عاد في خطابه قبل أَيام إِلى سَنّ تحديد ناضج مترصِّن للحُكم، تجدُر فيه، لِـخلاص الوطن، العودةُ إِلى الدستور نصًا وروحًا لا وُجَهَة نظر، وإِلى خفْض الصوت لإِسماعه أَبعدَ أَثرًا، وإِلى التواضُع لِـجعله أَعلى نضجًا في معالجة الشؤُون الـمُرَوَّسة.
وحده هذا التواضُع الـجَمّ في الموقف الأَهَمّ والحالة الأَعَمّ، هو الذي جعَل عظيمًا في التاريخ، يملِك ناصية التاريخ، ينحني على أَقدام تلاميذه يغسلُها، ويُرفَعُ على الصليب مُـحتملًا إِكليلَ شوكٍ لـم يُشوِّهْ قامَــتَــه التي أَطلَّ بها في اليوم الثالث صوتًا عظيمًا مُدَوِّيًا دَحْــرَجَ الحجَر وَوَطِئَ الموتَ بالموت، وَوَهَبَ الحياةَ بالقيامة التي أَذَّنَت بالخلاص.
هـنـري زغـيـب