في طبيعة البحث العلْمي الـمُطْلِع اكتشافاتٍ واختراعاتٍ وأَحداثًا تُطوِّر البشرية، أَن يبقى العالِـم داخل مـختبرِه، فيَصدُر الاختراع ويتنعَّم به الناس مستهلكينَه ولا يعرفون من وراءَه فكرةً أَو تقنيةً أَو تطويرًا. هكذا قدَرُ الـمخترِع أَن يكون مَرساةً غيرَ مرئيَّة تختفي في قعر البحر فلا يرى الناس إِلَّا السفينةَ ثابتةً في مهابةِ ركُونها. وهكذا يتنعَّم الناس بالسيارة أَو الـمكيِّف أَو حبَّة الدواء أَو أَيِّ آلةٍ يستهلكونها، ولا يعرفون مَن كان وراءَ اختراعها أَو اكتشافها أَو تركيبها.
مِن ذلك ما قرأْتُهُ أَخيرًا عن الـمخترع الأَميركي الصِربيّ الأَصل نيكولا تِسْلَى (كْرُواتيا 1856 – نيويورك 1943). لم يكتشف الناس أَنه صاحب اختراعاته الكهربائية والميكانيكية إِلَّا بعد 70 عامًا على وفاته وحيدًا في غرفته من فندق وايْنْدهام النيويوركي، فقيرًا، مديونًا، تاركًا نحو 300 براءَةِ اختراع، وهو العالِـمُ العبقريُّ الرؤْيويٍّ الذي نَعَــتَهُ بعضُ معاصريه بالـعُــتْــهِ والجنون. وفيما يسود بين الناس أَن للأَميركي توماس إِديسُون (1847-1931) فضلًا على تطوير التيار الكهربائي، تبيَّن أَنَّ تِسْلَى هو صاحب الفصل في تطوير الذبذبة الأَساس في تصنيع أَدواتٍ وآلاتٍ كهربائيةٍ حديثةٍ نجهل مخترعها بسبب خلافِه مع شركة وستنكهاوس التي عتَّمت عليه بعدما فَسَخَ عقْده معها لأَنها لم تدفع له حقوق اختراعاته. وحين دخل المحقِّقون الأَميركيون مختبرَه فور وفاته وصادروا أَبحاثه العلمية (وأَعلنوها سنة 2013 بحكْم قانون الوصول إِلى المعلومات) تبيَّن أَنه صاحبُ اختراعاتٍ غيَّرَت وُجهَةَ العلْم ووَجْهَ العالم: التيار الكهربائي المتردِّد (أَو الـمُتناوِب)، اكتشاف ضوء النِيُون (الفلورسنْت)، التصوير الشعاعي، الراديو (قبل إِديسون)، جهاز التحَكُّم عن بُعد، الـمولِّد الكهربائي، تقنية الإِنسان الآلي، أَشعَّة الليزر، مبدأَ الاتصالات اللاسلكية. واختراعاته واكتشافاته مسجَّلة لدى الـمراجع الأَميركية بأَرقامها المتسلسلة وتواريخ تسجيلها وملخَّصات فوائِدها ومفاعيلها. ويقال إِن له أُخرى لم تظهر بعد، وفي التحرُّك حاليًّا مَن يسعى إِلى إِظهارها مؤَكِّدًا بالوثائق أَن “المركز الأَميركي لتسجيل الاختراعات” كان يقع تحت إِغراءات الشركات الكبرى وأَصحابها الـمُتمَوِّلين كي يَتجاهلَ اسمه متجنِّبين بذلك دفعَ ما يترتَّب له عليها من حقوقِ اختراع.
وإِننا نَنْعَمُ اليوم باختراعاتٍ تسهِّل حياتنا، ولا نعرف أَيَّ معلومةٍ عن مُـخترعها أَو مكتشفِها نيكولا تِسْلَى الذي مات مُعْدَمًا في غرفة فندق، مقهورًا من ظُلم أَباطرةِ المال الذين عتَّموا عليه فاستضَاؤُوا بعبقريته الفريدة، وما زال النورُ يَغمرنا فيما يغمُر الظلامُ مَن نَدين له بفضل الإِنارة، ولا من يَسأَل عن صاحب الفضل الذين يغور مظلومًا في ظُلْمة النسيان.
هو هذا قدَرُ الـمرساة: تغورُ في ظُلْمة القعر، وينعَمُ المسافرون مطمئِنِّين لاستقرار السفينة، وليس من يفكِّر بفضل المرساة في طمأْنينة الاستقرار.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib