في كتاب “الأَمثال السائرة” لعالِـم اللغة الفقيه أَبي عُبَيْد القاسم بن سلَّام الهروي (جمع فيه “ما دَرجَ من أَمثال العرب”، كما شرحَه أَبو عُبَيْد البكري في كتاب “فصل المقال في شرح كتاب الأَمثال”) قرأْتُ في باب “تعيــير الإِنسان صاحبَهُ بعيبٍ هو فيه”، أَنْ “كان لــ”رُهْم بنتِ الـخَزْرَج” ضرائرُ كثيراتٌ، شَتَمَتْها إِحداهُنَّ يومًا فَرَمَتْها رُهْم بعَيبٍ هو أَصلًا فيها. فأجابت الضُرَّةُ: “رَمَتْني رُهْم بِدائِها وانْسَلَّت”. فَذَهَب ذلك مَثَلًا”.
تذكَّرتُ هذا الـمَثَلَ العربـيَّ القديم، وأَنا أُتابع في هذه الأَيام مُعظم السياسيين – في تصاريحهم وخُطَبهم وأَحاديثهم و”توكْ شُواتِـهم” ومؤْتمراتهم الصحافية وتعيـيراتهم سواهم ومناقشاتِـهم البيانَ الوزاريّ – يتسابقون على المطالبة بِـــ”مكافحة الفساد” و”كشْف مَسارب الفساد” و”محاسَبة المسؤُولين عن الفساد” و”وقْف الهدر” و”فتْح ملفَّات التوظيف الاعتباطي” و”مراقبة الصرف غير المضبوط”، و”فضْح التهَرُّب الضريبي” وسائِر التعابير الفضفاضة والكلمات الرنَّانة والأَلفاظ الشعبية المكَرَّرة، وأَنا أُراقبُهم وأَتأَمَّل حركاتِـهم وتعابيَر جَسدهم ولغْطَ عيونهم ورفعَ أَصابعهم ومَدَّ أَيديهم في الهواء، كأَنَّ الواحدَ منهم مُـــنَــزَّهٌ نظيفٌ نَقيُّ الطوية طاهرُ الكَفّ مرتاحُ الضمير ناصعُ الماضي والحاضر، لا شائبةَ عليه ولا تهمةَ تلْحق به ولا نقطةً سوداءَ في سجلِّه السياسيّ، مع أَنَّ اللبنانيين، جميعَ اللبنانيين، – الـمُتَنَوِّرين لا الأَغناميين-، عارفون فاهمون فاضحونَ هؤُلاء الذين يُـحاضرون في العفاف وَهُم مرتكبونَ أَوسخَ أَفعالِ الـمُوبقات وأَحقرَ صفَقاتِ السمسرات وأَحطَّ أَصناف التجاوزات والارتكابات. فعَلى مَن يقرأُون فصولَ عَفافهم ويغسلون أَيديهم بيلاطُسيًّا من دماءِ ما ارتكبُوه بِـحَقِّ الشعب اللبناني والمكلَّف اللبناني والمواطن اللبناني الذي أَوصَلَهُم إِلى كراسي الحُكْم فجعَلوا الحُكْم مغارةَ علي بابا موردَ رزْق لهم ولأَولادهم وأَحفادهم مِن بعدِهم؟ ومَن يُــعَــيِّــرُ مَن في هذه القافلة من السياسيين؟
هل يتجاسرُ هؤُلاء ويُـجيبون عن سؤَال “مِن أَين لكَ هذا”؟ هل يَـجرُؤُون على التصريح عن حساباتهم المصرفية وتعليل مداخيلهم بالملايين من شرايين الشعب اللبناني؟ هل يعلَمون بأَنهم لو كانوا في بلد آخر ذي دولةٍ سليمةٍ لَكانوا اليوم وراءَ القضبان يقْضون عقوبة الأَشغال الشاقَّة بعد طرْدهم من مناصبهم وتَعْرِيَـتِـهم حتى من حقوقهم المدنية؟
هل يَعي هؤُلاء أَنهم هُم هدَموا كيان الدولة، وجعلوها كرْمًا سائبًا يمارسون فيه وقاحةَ أَعمالهم وأَفعالهم وصفَقَاتهم وعملياتهم ثم يخرُجون على الإِعلام ويتشدَّقون بأَعذب عبارات المطالبة بمكافحة الفساد؟
هل يُدركُ هؤُلاء أَنَّ المقْصَلة أَخَفُّ ضُروب القَصاص حين سيَهُبُّ الشعب عليهم خالعًا أَبوابَ الباستيل اللبناني في ثورةٍ تكون الثورةُ الفرنسية أَبسطَ نماذجها؟
“رَمَتْني بِدَائِها وانْسَلَّت”؟ صحيح. وهي هكذا طبقةُ مُعظم سياسيِّين رَمَونا بالفساد وهُمُ الفاسدون، اتَّـهَمونا بفسادٍ وهدْرٍ هما أَصلًا فيهم، وعيَّرُونا بِفوضى هي أَصلًا من إِهمالهم وعدَم مسؤُوليَّتهم، وانهيارِ اقتصادٍ تعاظَمَ خطَرهُ بسبَبِهم. هذه الطبَقةُ التي بَلانا القدرُ بمعظم سياسيِّيها، هي من أَسوإِ ما يمكن أَن يحصلَ في بلادٍ يصُحُّ فيها قولُ الأَخطل الصغير قبل خمسٍ وسبعين سنة:
يا أُمةً غَدَتِ الذِئَابُ تَسُوسُها غَرِقَتْ سفينَتُها..فَـأَينَ رئيسُها؟
تَعْساً لَـها من أُمَّةٍ … أَزَعيمُها جَلَّادُها .. وأَمينُها جـاسُوسُها؟
هبَطوا الجحيمَ فَرَدَّهُم بَـــــوَّابُـها إِذ خافَ من إِبليسِهم إِبليسُها
هـنـري زغـيـب