_____________________(8 آذار: “يومُ الـمرأَة العالَـميّ”)
ظهَرَتْ في كاميرا المراقبة حاملةً في يَدَيْها أَكياسًا خَطَت بها خطوتَين خارج الباب لدى وصول القطار، وقبل الخطوة الثالثة انفجر القطار واجتاحَ المحطةَ دخانٌ تخللَّت غيومَهُ المشتعلةَ سياطُ نار ترمَّدت تحتها كُتَلُ الضحايا.
وفيما الهلعُ خانقٌ مفجوعي كارثة محطة القطار في القاهرة، كانت هي بيديها تُطفئ النار قبل أَن تفقدَ الوعي بعدما فقَدَت الأَكياس.
لم يعُد مهمًّا ما في الأَكياس طالما يداها ستعودان من جديد تحمِل غيرها وفيها لصغارها لقمةٌ ولأَطفالها بهجة.
“يوم المرأَة العالمي” مرَّ أَمس كما كلَّ عام، تصحبه احتفالات منبرية تتسابق إِليها الكاميرات والأَقلام، لا من يذكر كلمةً واحدة عن حاملة الأَكياس إِلى أُسرتها، المجهولةِ الهيئة والهوية، في كل صقْع من هذا الكوكب.
يومُ المرأَة، حقيقةً، هو يومُ هذه المرأَة التي لا اسْمَ لها ولا وجهَ ولا صوت، لا المنابر تذكُرها ولا المحتفلون الكرنـﭭـاليون يقيمون لها وزنًا، ولا الجمعياتُ النسائية في العالم تلتفت إِليها بلُقمةٍ أَو هدية.
هي المرأَةُ المقهورة، الصامتة، الـمُكابرةُ على جُرح أَو أَلَـم، الـمُحتمِلةُ فاجعةً أَو مصيبةً، المستمرَّةُ في أَداء حضورها الحافي: أُمًّا تعيل وحيدةً صغارَها، أَو أَرملةً ترعى وحيدةً أَولادها، أَو أَجيرةً تُواجه وحيدةً مصيرها فتصارعُهُ سياقًا أَو محيطًا أَو مجتمعًا ذُكوريَّ النِظرة يُـحوِّلُها دَابَّةً تحمل على ظهرها أَكياسًا أَثقلَ من جسمها فَتَنُوءُ تحتَها وقد تسقط جثة (كما حصَل في سبتة على حدود إِسـﭙـانيا/المغرب)، وفي جميع الحالات تتحدَّى قدُراتها الجسدية من أَجل أَسمى الأَسباب: لقمةُ العيش، وتمضي إِلى قَدَرها بصمتٍ يضجُّ في عينيها بأَقوى من عصْف تِـــنِّين.
في منطق العين أَن يرى الناس السفينةَ طافيةً ساكنة، وأَلَّا يَرَوا مرساةً صامتةً تعضُّ الرمال في قعر البحر كي تظَلَّ السفينةُ ثابتة في سطوعها وهيبتها واتِّزانها. وفي منطق المجتمع أَن يرى الناس المرأَةَ ذات الهيبة وأَلَّا يَرَوا مرساةَ الأَيادي لـمَن عملْنَ في المقلب المخفيّ، كلٌّ منهنَّ في خدمتها، كي تظهر تلك الهيبة.
في شهر الاحتفال بالمرأَة، شهر المبدعات والمفكِّرات والرائدات: تحية وفاءٍ إِلى المجهولة الساعية إِلى رزق عائلتها، المجاهِدَة الصامتة على دروب الظلْم والظلامة، الحاملةِ الهمومَ والرجاء، ناقلةِ الرزق والدواء، العابرةِ لا اسم لها ولا هوية، الحاملةِ أَكياسَ اللقمة إِلى الجائعين والكسوةَ إِلى الأَولاد، التي تأْتي في صمتٍ وتَذهب في صمت، وحين تَسقط وحيدةً لا تَضيع أَكياسُها لأَنَّ أَخَواتٍ لها يحمِلْنها، ويُكمِلْنَ مُـخترقاتٍ نفقًا مجهولَ المسير والمصير، حاملاتٍ قدَرَ عائلاتٍ إِلى وُجهةٍ واحدة، وُجهة الدفْءِ والحنان، كجميع حاملات الأَكياس في العالم.
في “يوم المرأَة العالَـميّ”: تحيةَ إِكبارٍ وتقديرٍ إِلى كل امرأَةٍ مجهولةٍ لا اسم لها ولا هوية، ولا تعريفَ لها سوى أَنها… “حاملة الأَكياس”.
هـنـري زغـيـب