“أزرار” – الحلقة 1078
عندما سَأَلت طفلة
“النهار”  –  السبت 16 آذار  2019

     كان إِدْوِن هِربِرْت لِند Edwin H. Land (مخترع أَميركي، 1909-1991، ذو 535 براءة مسجَّلة باسمه) في رحلة استجمامٍ سنة 1943 مع زوجته هِلِن وصغيرَتَيه جِنيفِر وﭬـالِري وسْطَ منتجَعٍ سياحيٍّ في “سانتا فِيْهْ” (عاصمة ولاية نيو مكسيكو) حين التقطَ صورةً لابنتِه جِنيفِر وأَعاد آلة التصوير إِلى حقيبته. سأَلَتْه ابنةُ السنوات الثلاث أَن ترى كيف ظهرَت في الصورة، فشرحَ لها والدُها العالِـم بالفوتوغرافيا أَنَّ ذلك يتطلَّب أَيامًا في المختبر لتظهير الصوَر (بالطريقة العلمية السائدة فترتئذٍ). وببساطةِ البراءة العفوية سأَلَت جِنيفِر: “ولماذا لا نرى الصورة الآن”؟

         بعد ثلاثين سنة، في حديث إِلى مجلة “لايف” الأَميركية سنة 1973، روى العالِـمُ تلك الحادثة وعقَّب عليها: “شَغَلَني سؤالُ ابنتي الطفلة أَيامًا توصلْتُ بعدها إِلى اكتشاف طريقة تحليلية كيميائية للتظهير الفوريّ بتعيين مقدار استقطاب الضوء إِلى المادة الكرتونية بقياس دوران موجات الأَشعة، ما يُتيح تظهير الصورة من كاميرا خاصة فيها مختبرٌ داخليٌّ يَطبع الصورة فورًا على أَفلام خاصة”.

ومن يومها أَطلقَ نظامَ أَفلام الـ”ﭘـولارُوْيْد” (Polaroid) اختراعًا جديدًا مسجَّلًا باسمه. وانتشر الاختراع بترويج تجاري عَمَّ العالَـم في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

         ومن الـ”ﭘـولارُوْيْد”، ذاتَ سؤَالٍ سنة 1943، إِلى ما بلغَتْهُ الفوتوغرافيا اليوم، بعد 75 سنة، من تَطَوُّرٍ مُذهلٍ في عصرٍ رقميٍّ بات معه كلُّ حامل هاتفٍ خَلَويٍّ مُصورًا يلتقط صوَرَه ويراها فورًا ويحتفظ بها في ملفٍّ رقميٍّ بلا حاجةٍ لِـمُصوِّرٍ يَلتقط الصورة ولا لاستوديو يُظَهِّر الصورة ولا لِـمَلفَّاتٍ كرتونية ضخمة لـحفْظ عشرات الصُوَر.

         في هذه الرواية وجهٌ آخَر من وجوه الإِلهام الذي يَلتمعُ أَحيانًا من سُؤَالٍ، من مصادَفةٍ، من خاطرةٍ، من حَدَثٍ عابرٍ، من مَشهدٍ، من فكرةٍ بارقةٍ، من كلمةٍ في جلسةٍ، من لحظةٍ في مكانٍ، من تَذكارٍ في زمانٍ، فتُولدُ من الإِلهام القصيدةُ، أَو اللوحةُ، أَو القطعةُ الموسيقيةُ، أَو الروايةُ، أَو الأَقصوصةُ، ولكنْ تولَد أَيضًا بارقةُ اختراعٍ عِلْميٍّ يُطوِّر الإِنسانية أَو اكتشافٍ صِدفويٍّ يُطوِّر البشرية (كصِدفةِ اكتشاف الموركس).

          أَهو هذا ما يسمونه “الإِلهام”؟ ربما. لكنَّ الإِلهام مرتبطٌ دومًا بِـمُسبِّبٍ جَليٍّ في مكانٍ وزمانٍ تولَدُ منهما نُطفةُ الفكرة فيُطَوِّرُها مَن يُسمَّى “مُلْهَمًا” ليُصبح “مُلْهِمًا” سِواه حين هذا السِوى هو المتلقِّي.

         وإِذا الوحيُ طبيعتُهُ ما هو فوقَ البَشَريّ، فالإِلهامُ في طبيعته بَشريٌّ كُليًّا، عَلامتُه ما يَنتُجُ عنه من فعلٍ أَو قولٍ أَو سلوكٍ، أَي ما يَجعل الإِنسانَ مُشْرقًا أَكثرَ في اقتبالِ تطوُّراتِ عصره، وهي جليَّةُ البروز في قرننا الحالي الحادي والعشرين السريعِ الاكتشافات المفاجِئَة، الـمُتسارعِ الاختراعاتِ الـمُذهِلةِ التي – مَن يدري؟ – قد يكون بعضُها جَوابًا عن فضولٍ عفويٍّ بصيغةِ سُؤَالٍ بَريْءٍ طرحَتْهُ طفلةٌ ذاتَ لَـحظةٍ عابرةٍ من رحلةٍ سياحية.

هـنـري  زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib