“أَزرار” – الحلقة 1076
الموهبةُ وحدَها لا تَـكْـفـي
“النـهار”  –  السبت 2 آذار  2019

            في مقابلة أَجراها أَخيرًا تلـﭭـزيون ABC الأُسترالي مع الطفلة آليتا أَندري (11 سنة) أَنها باعت حتى اليوم لوحاتها التجريدية بنحو 50 أَلف دولار. ويُشبِّه النقَّاد أَعمالها بلوحات الأَميركي جاكسون ﭘـولوك الشهير بِدَلْق الأَلوان عشوائيًّا على قماشة أُفقية بيضاء كبيرة تاركًا إِياها تتَّخذ أَشكالًا حُرَّةً على مساحة القماشة. وفي المقابلة رَوَت آليتا أَنها بدأَت “تَدْلُق” الأَلوان على القماشة منذ هي في شهرها التاسع، وأَولُ معرض أُقيم لها وهي في شهرها الثاني والعشرين، وفي سنتها الرابعة عرضَت لوحاتها التجريدية في نيويورك، وفي سنتها التاسعة (2016) كانت أَصغر رسام في العالم ذي معرض فرديّ كامل (في الأَكاديميا الروسية للفنون الجميلة – سانت ﭘـيترسبُرغ).

         قد تكون هذه الظاهرة بين خوارقَ مذهلة لا تفسير لها. ويقال إِنها من ظواهر الطبيعة، تولد في طفل معجزة، وتنمو معزولةً عن تربية الوالدَين، فإِما يكبر مُواصلًا تطوير “المعجزة” فيه، أَو تتلاشى معه عبر سنوات نُـمُوِّه الطبيعي والفني.

         أَين القاعدة إِذًا؟ في التاريخ أَمثالٌ متضاربة: هذا فتى أَلماني في نحو العاشرة يتبرَّأُ منه مُعلِّموه لطيشِه وكسَلِه وصعوبة نُطْقه، لكنه كبِرَ وأَصبح لاحقًا عبقريًّا ملأَ العالم اسمُه أَلبرت آينشتاين. وهذا فتى نـمساوي بدأَ عزفُه يسطع منذ هو في الرابعة، في الثامنة كتب سمفونياه الأُولى، وفي الثانية عشْرةَ وضَع أُوﭘــرا “باستيان وباستيانّا” التي لا تزال تدورُ على المسارح الكبرى حتى اليوم، وحين مات في الخامسة والثلاثين كان في سجلِّه 650 تأْليفًا موسيقيًّا في مختلف الأَنواع، وكان اسمُه موزار.

         هذا الإِبداع المبكِّر من ظواهر مذهلة في العالم، يقوم على ركائِز ثلاث: الموهبة، الذاكرة، العبقرية. وهذه الثلاث في حاجة أَكيدة إِلى الصقل. فالموهبةُ الفطرية تحتاج العملَ الدؤُوب المتواصل كي تنضج، والذاكرةُ ضرورةٌ لصقل الموهبة والحفاظ على معالـمها وعلاماتها، والعبقريةُ الخام وحدها تُبقي نتاجها مهَوِّمًا في فراغ الأَصداء المحيطة تهليلًا وتشجيعًا وتصفيقًا. إِنما هذه جميعُها لا تُنَمِّي النتاج إِن لم ترفدْهُ عناصر العلْم والمعرفة والاطِّلاع والتثقُّف. صحيح أَن العلْم فقط – أَقصد التعلُّم والدراسة والشهادات – لا “يصنع” موهوبًا أَو عبقريًّا إِن لم يكُن المعنيُّ موهوبًا أَو عبقريًّا قبل العلْم. لكنَّ هذا الأَخير يُنمِّي الذاكرة اللاقطة، يصقل الموهبة فيؤَمِّنُ لها ضوابط آمنة، ويُـثمر في العبقرية جاعلًا إِيَّاها منضبطةً في الأَداء وتاليًا في تجنُّب التهويم غير المؤَدي إِلى الإِبداع الحقيقي.

         إِتقان بُحور الشعر لا يُولِّد بودلير، وإِتقان السلَّم الموسيقي لا يولِّد موزار، و”دَلْقُ” الأَلوان عشوائيًّا على مساحة بيضاء لا يولِّد ﭬـان غوخ.

         الذاكرةُ وحدَها لا تفي، الموهبةُ وحدَها لا تكفي، العبقرية وحدها لا تستكفي.

          هذا الثالوث المبارَك لا ينمو إِلى الإبداع إِلَّا بالمعرفة، والمعرفةُ ابنةُ الـمِراس الذي صَقْلُهُ يوصل هذا الثالوثَ إِلى الخلود.

هـنـري  زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib