“نقطة على الحرف” – الحلقة 1401
إِخراج الزواريب الضيقة من السياسة
إِذاعة “صوت لبنان” – الأَحَــد 3 آذار   2019

         كنتُ على موعدٍ معه قبل أَيام. اتصلتُ به أَسأَلُه عن موقع بيته. سأَلَـني إِن كنتُ أَعرف المنطقة التي يَسْكن فيها. أَجبْتُ أَنْ نعم مررتُ بها غيرَ مرَّة. فبادرَني بهدوء: “الأَمرُ بسيط. أَنا في الشارع رقم 10 المبنى رقم 10 الطبقة الأُولى”. لم أَحتَجْ إِلى مَزيد. بعد وقت غير طويل كنت أَرِنُّ جرسَ بابه.

         ولَكان هذا الأَمرُ طبيعيًّا بديهيًّا عاديًّا لا يستحقُّ الذِكْر ولا التنويه، لو انَّه في أَيِّ مدينةٍ من أَيِّ بلدٍ منظَّمٍ فيه – كما يجب أَن يكُون – ترقيمٌ طبيعيٌّ بديهيٌّ عاديٌّ لكلِّ شارعٍ ولكل مبنًى في الشارع، تسهيلًا للبريدِ ولأَيِّ خدمةٍ وأَيِّ زيارة.

         لن أَذهبَ بعيدًا فأَستعيرَ ما هناك أَو هنالك من الـمُدُن والبلدان، بل أَبقى هنا، عندنا، لأَسأَلَ كيف ولماذا لا تكون مرقَّمةً جميعُ الـمُدُن والبلدات والقرى والأَحياء، وتاليًا جميعُ البيوت والأَبنية والـمَحالِّ والـمُجمَّعات السكنيّة، كي يسهُلَ الأَمرُ على قاصديها؟

         واستطرادًا: كيف ولماذا البلدياتُ – والجهاتُ الحكوميةُ المسؤُولةُ المعنيةُ بهذا الأَمر – لا تَعمَدُ إِلى المباشرة بهذا الـمَسْح الشامل في جميع الشوارع والأَحياء والطرقات وِسْعَ كلِّ لبنان، وهو أَمرٌ ضروريٌّ على الصعيدَين اللوجستي والديمغرافي؟

         وإِلى متى سنظلُّ نَدُلُّ على بيوتنا في شوارعنا بهذه الطريقة الكاريكاتورية السخيفة مستعينين بأَول مفْرَقٍ بعد بيَّاع البطيخ و50 مترًا خلف الصيدلية وبعدها بيَّاع بوظة إِلى اليسار ثم دكانٌ عتيق إِلى اليمين يليه زاروبٌ في أَوَّله زيتونة يابسة إِلى اليمين وبعدها مفْرَق إِلى اليسار فيه سيارة مهجورة ثم رابعُ بناية إِلى اليمين أَمامها بُركة مياه فارغة، حتى يصلَ الزائر ومعه دوارٌ أَين منه دُوَار البحر!

         لا أَعرف كيف تتغافل الدولة عن هذا الأَمر الحيَوي الـمُلِحّ. أَفهم أَنَّ الأَمر في لبنان ذو حساسياتٍ دقيقةٍ طائفيًّا وحزبيًّا وسياسيًّا لتسمية الشارع باسم هذا “المرحوم” أَو ذاك “الشهيد” أَو ذلك “الـمفضال” في الوطن أَو البلدة أَو المدينة، ما يَـخلُق نزاعاتٍ جداليَّةً عن سبب التسمية باسمِه، ولماذا هو لا سواه من الصناديد العضاريط، أَو حتى باسم أَحد الأَعلام المرموقين الذين هم أَيضًا يَـخضعون لـمُحاصصاتٍ لم يَعُد مُـمكنًا أَيُّ عملٍ في لبنان دون خُضُوعه للمحاصصات الطائفية والسياسية والمذهبية، فلا معيارَ ولا مقياسَ ولا ميزانَ إِلَّا بتوزيع الحصص في كلِّ مجال.

         أَفهَمُ هذا ويُـخجِلُني. ولكنْ، حَيالَ هذا الواقع السخيف، لـماذا في هذه الحالات لا يتمُّ اعتمادُ الأَرقامُ لتسمية الشوارعِ، والأَرقامُ – حتى إِشعارٍ آخرَ – لم يَلْحَقْها بَعْدُ ما لَـحِقَ عندنا بالأَلوان وما تعنيه من انتماءَاتٍ سياسية، فَتَنْتَفي عندها خلافاتٌ في تسمية الشارع باسم هذا أَو ذاك، ولا يعود مجالٌ أَن يتنطَّح اعتباطيًّا أَيٌّ كان بإِطلاق أَيِّ اسمٍ كان على شارعٍ ذي لَونٍ طائفيٍّ كان أَو دينيٍّ أَو سياسيّ!

         يكفينا ما عندنا من أَسماء ومناسباتٍ وطنيةٍ ودينيةٍ كي لا نزيدَ عليها خلافاتٍ وطنيةً ودينيةً، ولْــتَــتَــبنَّ الدولة اعتمادَ الأَرقام للشوارع والبيوت فَنَستَرِحْ من هدْر الوقْت على الاستفسار طويلًا وتفصيلًا مُـمِلًّا عن بيتٍ لا يُـمكنُ الوصولُ إِليه إِلَّا بالمرور السعيد على خُطوط العرض والطول في جغرافيا الأَشجار اليابسة ومَـحالِّ الـخُضَر وبيَّاعي البوظة والبطيخ.  

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib