في “اليوم العالـميّ للُّغة الأُم” (21 شباط) تحتفي الدولُ معتزَّةً بــإِرثِ لغتِها الذي تُحافظ عليه كتابةً وشِفاهًا بـجميع الوسائل والوسائط الـمُتاحة لأَبنائها، في احترامٍ ذي رمزيةٍ عالية. فهل نحن أَيضًا نحترم لغتَنا الأُمّ بــ”رمزيةٍ عالية”؟
لن أَعود كثيرًا إِلى الأَمس بل إِلى أَمس فقط. ومن تابعوا خلال هذا الأُسبوعِ جَلَسات مناقشة البيان الوزاري، يرون معي إِلى أَيِّ انحطاطٍ مُعيبٍ بلَغَت لغتُنا مع معظم النواب الذين ناقشوا البيان.
أَتجاوَزُ وِقفاتِـهم العنتريةَ وأُلْعُبانياتِـهم الخطابيةَ وبهلوانياتِـهم الأَدائية برفْع الصوت أَو اليد أَو الحاجبَين.
أَتجاوَزُ اتهاماتِـهم بالتقصير والهدر والفساد، كأَنهم يتحدَّثون عن دُوَل في المريخ أَو عُطارد، كأَنهم منزَّهون عن الاتهامات، كأَنهم لم يكونوا في الحكْم والقرار والمتابعة والمراقبة.
أَتجاوَزُ كشْفَهم صفقاتٍ مُرعِبةَ السِرِّيَّة، كلَّفَت الدولةَ مبالغَ مُرعِبةَ الأَرقام، سبَّبت لنا كمواطنينَ دُيونًا مُرعِبةَ الأَعباء.
هذا عن القلْب المريض، فماذا عن القالَب وهو أَيضًا مريض؟
أَفهَمُ أَلَّا يكونَ معظَم النوَّاب جهابذةَ لغةٍ وسِيبَوَيْهِـيِّــي بلاغةٍ وفصاحة.
أَفهَمُ أَن أَمام معظَمهم نَصًّا لم يكتُبُوه، بل دبَّـجَه لهم سواهم.
ولكن كيف أَفهَمُ أَلَّا يَقرأُوا النص قراءةً سليمةً مع أَن معظَم كلماتِه قد تكُون مُشَكَّلَةً، أَقلُّها نهايةُ الكلمات كي لا أَتوقَّفَ مُدَقِّقًا عند عَين المضارع وحركاتِ الإِعراب وجمع المؤَنَّث السالم والمفعول به للمصدرِ أَو لاسم الفاعل أَو المفعول.
لا أتَوقَّع منهم هذه الدقَّة في التضلُّع باللغة، وخصوصًا عندما يَـخرُجون عن النص المكتوب ويروحون يَرتجلون بالفصحى عباراتٍ مُكَسَّرَةً مُشَوَّهَةً يَـخجلُ من ارتكابِـها تلميذُ سِرتِفِكا.
العربيةُ هي لغتُنا الرسمية، وهُم في مقرٍّ رسميٍّ، فَلْيَحترمُوها أَو فَلْيَتَحدَّثوا بالـمَحكيَّة مُـخَــبِّــــئِــين تقصيرَهم كي لا تتدحرجَ على لسانِهم كاريكاتوريةُ لغتِهم الأُمّ.
هل كثيرٌ ما أَطلُب؟ وهل من سيقول لي: “المهِمُّ مضمونُ الخطابِ وليس أَداءَه قراءةً”؟
صحيح؟ هل من سَمِع نائبًا أَو وزيرًا أَو رئيسًا أَجنبيًّا يَـخطُب أَو يتحدَّث بِلُغَتِهِ الأُمّ ويرتكِبُ فيها أَخطاءَ لفظٍ أَو قاعدةٍ لُغَوية؟ هل فرنسيٌّ أَو أَميركيٌّ أَو إِنكليزيٌّ أَو إِسـﭙـانـيٌّ أَو إِيطالـيٌّ أَو أَلْـمانِـيٌّ يرضى بأَن يُشَوِّهَ سياسيٌّ لغتَه الأُمّ مستهينًا بها مهينًا إِياها مستخفًّا بسامعيه، ويَـجيْءُ مَن يقول: “المهِمُّ مضمونُ الخطابِ وليس أَداءَه قراءةً”؟
اللغةُ السليمة بنتُ العقل السليم. واللغةُ الغنيَّةُ لا تُعطى لِعُقُولٍ فَقيرة، والاستهانةُ باللغةِ إِهانةٌ عَظَمةَ العقل.
وكما العقلُ الـمُتلقِّي لا يَقبَلُ الاستهانة بالأُمّ، كذلك لن يَقبَلَ إِهانةَ اللُغة الأُمّ.
ولا فرق في منطِق العقل بين احترام الأُمِّ واحترام اللُغةِ الأُمّ.
هـنـري زغـيـب