في عادتي، وأَنا ذاهبٌ صباحًا إِلى مكتبي في الجامعة اللبنانية الأَميركية، عابرًا كورنيشَ المنارةِ الجميلَ الطَلِّ والطلَّة، أَن أُخاصِرَ بعينيَّ وَسَاعة البحر ربيعًا، وهَرولَة الـموج شتاءً، فأَحملَ معي إِلى ساعات النهار هذه الفسحة الحيوية من شرفة بيروت، تندى بذكريات الستينات منذ جادة الفرنسيين إِلى مقهى الحاج داود إِلى فخامة النورماندي إِلى مذاقات اللوكولوس إِلى سحر الإِكسلسيُور.
جميعُها زالت اليوم لكن أَصداءَها في ذكريات صباي ترافقُني وأَنا عابرٌ كورنيشَ المنارة. ونادرًا ما تلفتُني أَعمدةٌ متتاليةٌ فارعةٌ رؤُوسها فارغةٌ من المصابيح إِلَّا هيكلٌ حديديٌّ مكوَرٌ ينتظر وُصول مصباحٍ ينير ليل الـمَشَّائين بلوغًا إِلى سُطوع أَنوار الـمَنارة حارسةِ بحر بيروت.
غير أَنني، صباح أَمس، لفَتَ عبوري عصفورٌ يَـحُطُّ على زند المصباح الفارغ، مطمئنًّا إِلى غياب اثنين: تيارٌ كهربائيٌّ قد يصعقه قَتَّالًا، وصيادٌ أَرعنُ يصوِّب عليه زناد بندقية مجرمة تُرديه صريعَ إِصبعٍ على زناد.
توقفتُ إِلى الرصيف، ورحتُ من نافذة سيارتي أَتأَمَّل هذا العصفورَ الـمْطْمَئِنَّ إِلى استراحته على زند هيكل المصباح، يتلفَّت مرةً إِلى وساعة البحر، مرةً إِلى العابرين تحته فرادى وجماعاتٍ وعشاقًا، مرةً إِلى الفضاء الزرقاوي فوقه، مرةً إِلى البعيد حيث ثلجُ صنين يــبدو من الكورنيش سطرًا أَبيضَ على جبين صفحة الجبل.
هانئًا كان هذا العصفور في تَرَبُّعِه على عرش الطُمأْنينة. رنَّت في بالي أَسئلةٌ بدون صدى: أَيكون أَبًا يبحث عن قضبان قشٍّ ليشكِّل عشًّا لصغاره؟ أَتكون أُمًّا تبحث لصغارها عن حبوبٍ تُـزْقِمها إِياها؟ أَيكون طفلًا زغبًا يُنَسِّمُ جانِـحَيه بنسيمٍ منعشٍ من بحر بيروت؟
أَيكون طيرًا من جماعة ينتظر على زند المصباح وصولَ رفاقه في السِرْب؟ أَيكون جديدًا على البحر يتأَمَّل النوارس تنهال على الموجة غَوصًا على سَـمَكةٍ ثم تعلو في الفضاء حاملةً قُوتًا شَهيًّا؟
هانئًا كان هذا العصفور على زند مصباحٍ فارغٍ إِلَّا من زغب عصفورٍ تتسابق الأَنسام على دغدغةِ ريشه، وهو هانئٌ كأَنه ملِكٌ على عرش، كأَنه سيِّدُ الفضاء، كأَنه مالكُ الوساعة، ولا هـمَّ لديه في وطن مثْقلٍ بالهموم، لا قلقَ في جناحيه عن اجتياز المسافات، لا أَرقَ في لياليه على مصير بلاد.
بعد أُويقاتٍ لم أَحسَب دقائقَها، أَقلعتُ مكْملًا طريقي على الكورنيش، في بالي هدوءُ هذا العصفورِ السعيد، في عينيَّ طُمأْنينَتُهُ على زند المصباح الفارغ، وفي قلبي نبضةٌ رافقَتْني، طَوال نـهار أَمس، تَـمنيتُ بها أَن أَكون مثلَه عصفورًا هانئًا على مصباح بلادي.
هـنـري زغـيـب