“أَزرار” – الحلقة 1074
عطاءَاتُ الرؤْيويِّــين عطايا للمبدعين
“النهار”  –  السبت  16 شباط  2019

          كان في الخَطواتِ الأُولى تحضيرُ ملفِّ الزجل اللبناني لإِرساله إِلى منظَّمة الأُونسكو كي تُدْرجَه على اللائحة التمثيلية لـ”تراث البشرية الثقافي غير الـمادي”، كأَول حضورٍ في هذه “اللائحة” العالمية، حين خَطَرَ لي تنصيعُ هذا الفن في الذاكرة الشعبية اللبنانية. اتصلتُ بمكتب رئيس الحكومة عهدذاك الشهيد رفيق الحريري مقترحًا تكريم اثنَين من أَعلام الزجل اللبناني: موسى زغيب وزغلول الدامور. وما تأَخَّر الجواب حتى أَتاني حاسمًا: “دولة الرئيس يقترحُ عليكَ تهيئةَ حفلة زجلية منبرية في السراي الحكومي”.

         واحتشد في السراي، إِصغاءً إِلى ذينِك الشاعرَين ذاتَ أُمسية من صيف 2004، جمهورُ شعراء وأُدباء ومثقَّفين وأَكاديميين وسياسيين. كانت تلك يومئذٍ بادرةً طليعيةً من الرئيس الشهيد سجَّلَت أَلَّا تبقى اللقاءات في المقرّ الحكومي محصورةً بالشؤُون السياسية والاقتصادية والعامة، بل أَن يفتحَ فسحةً للأَدب والشعر والثقافة.

         هذه البادرة من الرئيس الشهيد رفيق الحريري، في هذا السياق، تأْخذُني إِلى ضرورة أَن تكون للحاكم رؤْيةٌ للشأْن الثقافي والأَدبي تُعادل اهتمامَه بالشأْن السياسي، فتنفتح الآفاق للمبدعين من كل حقل كي يشعروا باهتمامٍ رسميٍّ يغمرهم ولا يكون الاهتمامُ محصورًا بـوسامٍ على نعش.

         أَكتبُ هذا وأُفكِّر بـ”ﭬـرساي” الذي حوَّله لويس الرابع عشر “الملك الشمس” إِلى شمسٍ للشعر والمسرح والموسيقى، ففتح صالاته لأَعمالٍ هي اليوم خالدة في تاريخ فرنسا الإبداعيّ وتَدين بتنفيذها أَو دعم كتابتها المسرحية أَو الموسيقية لــ”الملك الشمس” الذي أَدركَ أَن مجد فرنسا لن يكونَ في عوابر حكومةٍ زائلة أَو مشروعٍ آنِـيّ، بل في آثار خالدة يكون هو وراءَها تحفيزًا أَو تشجيعًا أَو تنفيذًا.

         لا ينفع المبدعَ، لخلوده، وسامٌ رئاسي أَو حكومي على صدره أَو على نعشه، بل ينفعه تسهيلٌ رئاسي أَو حكومي لإِخراج نِتاجه إِلى الـعرض أَو الطباعة أَو النشر في وطنه وفي العالم، ما يَضمنُ خلودَه ومعه خلودَ الحاكم الذي أَمَّن هذا التسهيل. وهذا هو الحاكم الرؤْيوي الذي يدرك أَنَّ تاجَ بلاده خُلودُ الإِبداع فيها وليس شكلَ الحكومات ولا عددَ الوزراء ولا قانونَ انتخاب النواب.

         في حديثٍ لي مع الرئيس الشهيد، بعد أُمسية الزجل تلك في السراي الحكومي، تطرَّقتُ إِلى هذا الأَعلاه حول تسهيلِ الحاكم ولادةَ أَعمال المبدعين، فوجدتُ الأَمر سابِــقَـني لديه، بل أَكثر: وسَّعه لي عناوين تصميمِه للإِبداع والمبدعين في لبنان، ما كان سيجعلهم يهنأُون بلبنانهم الإِبداعي هناءَةَ آلاف المتخرجات والمتخرجين الجامعيين الـمَدينين له بفضل تعليمِهم العالي.

         من هنا أَن العقل المجرم الذي اغتالَه نَغَّصَ معه لبنانًا ثقافيًّا كان مهيَّأً للازدهار أَكثر، على صورة “ﭬـرساي” لبناني وسيطٍ للإِبداع، لا كسلطةِ رقابةٍ زجْريةٍ، أَو وصايةٍ مدائحيةٍ في بلاط الحاكم، بل كعطايا تُـحفِّـزُ المبدعين وتوفِّر عليهم، ولو جُزئيًّا، هُـمومَ الرغيف.                                   

هـنـري  زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib