كأَنَّ لكل أُسبوعٍ عندنا لغطَه الذي يُشغِّل وسائطَ التواصل الاجتماعي وبعضَ الصحافة، مرةً عن حق ومراتٍ عن تَـجَنٍّ.
حصتُنا هذا الأُسبوع كانت في اللغط الحاصل إِثْرَ صدور نتائج كُتَّاب العدل، وما رافقَها من لغطٍ وشُكوكٍ وشبُهاتٍ حامَت حول استنسابيةٍ في الإِنجاح، ورَيبةٍ من القربى، وتهويمٍ في التواريخ بدا أَنه خطأٌ طباعيّ.
السببُ في هذا اللغط، وفي كل لغطٍ سابقٍ وراهنٍ وآتٍ، هو هو : الكيلُ بمكيالَين والقياسُ بمقياسَين. والحلُّ في هذه وتلك وفي كل آن: تحكيمُ الضمير، في القضاء الذي يَحكُم بالعدل.
الضمير، وهو غالبًا ما يتمطَّاه المعنيُّون على قياسهم أَو لإِرضاءِ أَسيادهم أَو لـتمرير صفقةٍ أَو محسوبيةٍ شخصية أَو حزبية أَو سياسية.
مع هذا اللغط وفقدان الميزان الساطع، عدتُ بالذكرى إِلى قصةٍ أَرويها هنا باختصار، ومنها نقطف العبرة الساطعة.
في 30 آذار 1946 كان قاضي التحقيق العسكري فؤاد بطرس يستجْوِبُ في المحكمة العسكرية مواطنًا لبنانيًا من الجنوب موقوفًا بتهمةِ إِطلاق النار في عرس شقيقته من سلاحٍ غيرِ مرخَّص. وفيما الاستجوابُ جارٍ، دوَّت في حي البسطة طلقاتٌ ناريٌة ضاجةٌ تردَّدَت أَصداؤُها في كل المدينة حتى ظَنَّ القاضي أَنْ في البلد انفجَرَت ثورة أَو وقعَ انقلاب. استفهم القاضي على القوس، فقيل له إِنه موكبُ رئيس الحكومة رياض الصلح العائد من ﭘـاريس بَعد توقيعه في 23 آذار اتفاقَ جَلاء القوات العسكرية الفرنسية عن أَرض لبنان. وإِذ استطلع القاضي فؤاد بطرس الأَمر، وأَن لم تَعْمَدْ القوى الأَمنية إِلى توقيفِ أَيِّ مواطنٍ أَو تسطيرِ أَيِّ محضر، بــرَّأَ المتهم أَمامه وأَطلقَ سَراحه.
في اليوم التالي، اتَّصَلَ وزير الدفاع يومئذٍ أَحمد الأَسعد بالقاضي فؤاد بطرس، واستدعاه إِلى وزارة الدفاع. وفَور دخول القاضي بادَرَه الوزير: “لا أُريد التدخُّل في عمَل القضاء، إِنما استغربْتُ أَنكَ أَخليتَ سبيلَ مُتَّهمٍ بإِطلاق النار من سلاحٍ غيرِ مرخَّص مع أَن المخالفة موثَّقَةٌ بالشهود”. وكان القاضي عَلِمَ أَنَّ المتهم كان من أَخصام أَحمد الأَسعد انتخابيًّا، فأَجاب بكل هدوء: “معالي الوزير، أَمسِ كان العشراتُ يُطْلقون مئاتِ العيارات النارية، وهذه مخالَفةٌ موثَّقةٌ بالشهود، ومع ذلك لم يتمَّ توقيفُ أَحد. أَنا قاضٍ، وظيفتي تطبيقُ العدالة، والعدالةُ مساواة، وأَن أَحكُم بالعدل من دون ظُلمٍ قاهر. لم يطاوِعْني ضميري أَن أَسجُن رجلًا بسيطًا أَطلق النار ابتهاجًا في عرس شقيقته، ويبقى أَحرارًا عشَراتُ المخالفين أَمام عيون رجال الأَمن”.
“الضمير”، قالها رجُل القضاء، فَتَلَقَّفَها رجلُ الدولة، وأَجاب: “حضرة القاضي، بارك الله فيكَ، وحمى ضميرَ القضاء”.
بعد 13 سنة، دخل القاضي فؤاد بطرس وزيرًا في ثاني حكومات فؤاد شهاب سنة 1959، وتتالَت إِليه من يومها الحقائبُ الوزارية، وكان في جميعِها واحدًا ذا شعارٍ وحيد: الضمير، فكان رجلَ الدولةِ النموذجيَّ الذي لم يَلْوِ يومًا لالتواءَات رجال السياسة.
الضمير علامةُ رجل الدولة. وعلاماتُ معظم رجال السياسة كثيرةٌ ليس الضمير واحدًا منها.
العدلُ أَساس الـمُلْك؟ صحيح، لكنَّ للعدل علامةً واحدةً وحيدة: الضمير. هو الذي يَحكُمُ بالعدل، وهو الذي يَنتقي من يكونُ أَفضلَ كاتبٍ بالعدل.
هـنـري زغـيـب