صباح الاثنين الأَسبق، 23 كانون الثاني الماضي، صدَرَت جريدة “البلاد” الإِسـﭙـانية (El País) وعلى صفحتها الأُولى صورة وخبر.
الصورة: مئات سيارات التاكسي البيضاء في عُرض الشوارع
والخبر: تصعيدُ إِضراب سائقي التاكسي اعتراضًا على مضاربة شركات التاكسي العاملة بالتطبيقات الهاتفية الإِلكترونية كشركتَي “أُوبِـر” و”كابيفاي” ومثيلاتهما.
ليس من شأْني الدُخول في تفاصيل الإِضراب والاعتصام في مدريد. يكفينا ما عندنا من إِضرابات واعتصامات. على أَنَّ ما لَفَتَني في الخبر أَنَّ المعتصمين – عند مدخل “مركز مدريد الدولي” حيث كان معرضُ السياحة السنويُّ الأَهمّ في البلاد – كانوا يُحرقون الدواليب والمستوعبات الكبيرة، مقْفِلين الطريق كليًّا على الموكب الملَكيِّ الذي اضطُر إِلى سلُوك مدخلٍ فرعيٍّ جانبيٍّ صغيرٍ كي يدخلَ الملك فيليـپ السادس والملكة ليتيسيا، لافتتاح ذاك المعرض الذي كان في رعايته وحضوره. وتعذَّرَ على رئيس بلدية مدريد الوصولُ فأَلغى حضوره كما أَعلنَت مساءً وكالة “أُوروﭘـا ﭘْــرِس”.
ومن مدريد إِلى بيروت تنعكس الصورة.
في مدريد: الطريقُ مقطوعٌ على الملِك الحاكم فلا يَـمُرّ، وفي بيروت: الطريقُ مقطوعٌ على المواطنين كي يَـمُرَّ الحاكمون.
في بيروت، تنعقد قمَّة عند الواجهة البحرية فينقطع الطريق إِلى الواجهة الجوية ولا يصل المواطنون إِلى المطار.
في بيروت، يَـمُرُّ موكبُ السياسيّ فتنقطع الطرقات ويَنْسَجِنُ المواطنون في سياراتهم متحمِّلين شتائمَ أَزلام السياسي لأَنهم يكَدِّرون على زعامته سُلُوكَ الطريق بسلاسة.
في بيروت، تنعقدُ جلسة لمجلس النواب فتنقطعُ الطرقات في قلب المدينة وتُقفِل أَبوابَها المحال والمطاعم والمصارف، وتتعطَّل مصالح المواطنين كي لا يتكَدَّر أَصحابُ السعادة النوابُ بالوصول راتعين في سياراتهم الداكنة الزجاج حتى إِذا توقَّفَت سيارتُهم َهرَولَ أَزلامُهم: هذا يفتح له الباب، هذا يحمل له الحقيبة، هذا يُلبِسُه الجاكيت، وتنعقدُ الجلسة والناس في محيط ساحة النجمة ينتظرون.
في بيروت، زحمةُ سير جلجليةٌ يومية، تنحشِر فيها غاباتُ الحديد من سيارات وباصات وشاحنات، لكنَّ صفارة درَّاجات الأَمن تشُقُّ الزحمة كي يَـمُرَّ حضرةُ السياسي، فاتـحًا جريدتَه على وسْعها ولو كان لا يقرأ، نافخًا سيجارَه الأَطول من صبر المواطنين.
في بيروت، أَبناءُ جوارٍ وأَبناءُ سياسيين، والتمييزُ واضحٌ ووقحٌ ومثيرٌ غضبًا لم يبلغ بعدُ حَدَّ الانفجار.
في بيروت، يغرق الناس شتاءً في الطوفانات التي تنهال على أَرضنا لا أَمطارًا بل وَبالًا، والمسؤُولون بعيدون عن الغَرَق يراقبونه من شاشة التلــﭭـزيون ولا ينْسون أَن ينتقدوا الدولةَ التي لا تحتاط مسْبقًا لفتْح المسارب لأَنها منشغلة بِـ”مَساربَ” من نوع آخر.
في مدريد يقفِل المواطنون الطريقَ فلا يَـمُرُّ حتى الملك. وفي بيروت يقفِل السياسيون الطريقَ فلا يَـمرُّ حتى المواطنون.
في مدريد دولةٌ في خدمة مواطنيها. في بيروت دولةٌ تستخدم مواطنيها.
وبين الخدمة والاستخدام، يعرف المواطن هناك كيف ينال حقوقه، أَو كيف يــيأَس هنا من نيلها فينالُ عوَضًا عنها تأْشيرةَ دخولٍ تحمله إِلى أَول طائرة، حين لا يكون طريق المطار مقْفلًا بِـمرور موكبِ سياراتٍ داكنةِ الزجاج.
هـنـري زغـيـب