بعضُ التواريخ يَأْتي من ماضي الدُوَل، يبقى وَاسِـمًا حاضِـرَها باعتزازٍ وفَخَار، وينتقل إِلى أَبنائها اعتزازًا وفَخَارًا جيلًا بعد جيل.
الفرنسيُّ يَذكُر 14 تموز ويعتزُّ بِعِيده الوطنيّ. الأَميركيُّ يَذكُر 4 تموز ويعتزُّ بيوم بلاده الوطنيّ. اللبنانيُّ يَذكُر 22 تشرين الثاني ويعتزُّ بذكرى الاستقلال، ويَذكُر الأَوَّل من أَيلول مستذكرًا إِعلانَ دولة لبنان الكبير، ويَذكُر 25 أَيَّار ويكبُرُ بيوم تحرير الأَرض من دَنَس العدوّ الإِسرائيليّ.
أَفهم أَن تكون هذه تواريخَ يفخَر بها المواطن تذكارًا واحتفالًا، لأَنها تَسِمُ محطاتٍ مُشَرِّفَةً من تاريخه الوسيط أَو الحديث.
إِنما لا أَفهم أَن يتبارى سياسيون، ومعهم حفنةُ مواطنين، فيستذكروا تواريخَ يتباهَون في التلويح بها تصاريحَ وبياناتٍ وأَصواتًا وقبضاتٍ مرفوعةً في الهواء وأَصابعَ مسحوبةً في الخَوَاء: هذا يهدِّد بــ7 آب، وذاك يُـمَجِّد 7 أَيار، وذلك يلوِّح بــ6 شباط، ويقوم مَن يستذكر 12 تـموز، ويروح آخَرون يلتفتون إِلى تواريخَ أُخرى يستعيدونها معتَدِّين بها، وهي تواريخُ عار لا فَخَار، تواريخُ انقسام لا الْـتـئَام، تواريخُ أَجدى وأَجدرُ أَن تَغرق في النسيان فلا تصلَ إِلى الأَحفاد كي يظلُّوا يَنظُرون إِلى ماضي أَجدادهم بدون خجَل، وبدون أَن يعرفوا ما كان في روزنامة لبنان من أَيَّام كانت سوداءَ في زَوَايا الذاكرة.
بلى: عارٌ أَنْ يعرفَ أَحفادُنا أَنَّ بلَدهم، ذاتَ فتراتٍ سياسية، عرف سنواتٍ متقطعةً قاحلةً بين تعطيل رئاسة الجمهورية، وتعطيل مجلس النواب، وتعطيل تشكيل الحكومات، من أَجْل فردٍ، أَو عنادٍ، أَو نَـكَدٍ كَيدِيّ، ومن أَجل أَن يصل إِلى السُلطةِ شخصٌ، أَو تيَّار، أَو حزب، أَو تكتُّل، أَو تجَمُّع، أَو رئيس، أَو وزير، أَو نائب، أَو أَيُّ سياسيٍّ يكون بُوقًا للخارج، أَو يكون صدًى صَدِئًا لصَوت سيِّدِه، أَو مستزْلـمًا مستسْلمًا لـمَن يَدين له ببلوغ جَنَّة الكرسيّ أَو الحقيبة أَو المنصِب أَو أَيِّ وصولٍ آخَر، ولو كان وُصولُهُ على حساب الكرامة والشرف وهو عارٍ منهما، ولا يستحقُّ شرف الـمواطَــنَة اللبنانية، إِذ يكون بلَغ منصِبَه على حساب مواطنين طَــيِّبين أَوْلَوُه ثقةَ أَصواتِهم فتنكَّر لهم لأَنه عديمُ الوفاءِ كريمُ الولاءِ لبابٍ خلْف بابٍ خلْف باب.
الشرفُ الأَكبر: الولاءُ ما إِلَّا للبنان، والوفاءُ للشَعب وبناءُ ذاكرته بتواريخَ تَـملأُ القلوب بالفَخَار لا بالعار، بتواريخِ الاكتمال لا الاقتتال، بتواريخ توحيد الشعب على ذاكرة مُضيئَة، لا تبديد الشعب على ذاكرة مُسيئَة.
في جميع البلدان تواريخُ سوداءُ يُـحجَب التذكيرُ بها والتمثُّلُ بها والتنديدُ بها، ويُغَــيَّــبُ تذكارُها كي ينساها المواطنون فلا ينقلُوها إِلى أَحفادهم.
أَمَّا إِذا بقيَت تلك التواريخُ سوداءَ في ذاكرة جيلِها، فسوف تنتقل سوداءَ من جيلٍ إِلى جيل، ومعها ينتقِل الحقْد من جيلٍ إِلى جيل، وتظَلُّ تولدُ مع كل جيلٍ جديد، جُـرثومةٌ سَـامَّــةٌ لاقتتالٍ جديد.
هـنـري زغـيـب