“أَزرار” – الحلقة 1059
الشبَـحُ الذي ابــتَــلَــعَ القُـبْـلَة
“النهار” – السبت 3 تشرين الثاني 2018

“كتابةُ رسالة الحب مقامرةٌ مع شيطانٍ شبَحٍ يولدُ في اليَد التي تَكتُب، ويَرُوح يكبَر مع سُطُور الرسالة، كأَنما في كتابتها التَعَــرّي أَمام شبَح يترصَّدها كي يَشرَب قُــبُــلاتِـها عن الورق قبل وُصُولها إِليكِ. لذا أَرى في رسائل الحب شَعوَذةً تنهَشُني فأَكرهُها”.

بهذا التَوَتُّــر الـجَوَّاني عـبَّـر فرانتز كافكا (1883-1924) عن شعوره حَـيـال كتابته رسائلَ حميمةً إِلى حبيبته ميلينا جِـسِـنْـكا (1896-1944) طالبًا منها مضَضَ الانقطاع عن الكتابة إِليه.

أَحيدُ عن موقف كافكا وما لوَضْعه الصحيّ والنفسيّ من أَثَـر عميق على رأْيه هذا، وأَنفصلُ عن كل رأْيٍ مغايرٍ أَو موافق، لأُفكِّر كتابةً في جوهر التراسُل العاطفيّ: أَهو فعلًا أَدنى التعابير إِلى الذات وأَقربُها إِلى الذات الأُخرى؟ هل حقًّا، بين البَوح على الورق وبُلوغِه الحبيبةَ، حضورٌ ثالثٌ يَنْبُتُ بين كلمات الرسالة، يُشارك العاشقَ عواطفَه وأَحاسيسَه فيقطف بعضَ وهْجها قبل أَن تقطفَه الحبيبة؟ ومَا يكون هذا الحضور: تزويقُ اللغة؟ تنصيعُ الكلمات؟

إِذا كانت رسائلُ الحب الحميمةُ مقتصِرةً على عاشقٍ وحبيبةٍ لا تراها عينٌ ثالثة إِلَّا حين تَنتشرُ هذه الرسائل على الناس فتَشِيعُ وتكشِفُ هذا “العري” (كما سـمَّاهُ كافكا) – وفيه ينطلقُ العاشقُ بـأَوسع سجاياه فلا يستُرُ عاطفةً ولا يلبَسُ ما يُـخبّئُ عُريَ بوحٍ أَو لهفةً لاهبةً وينطلق بلا مراقَبةٍ أَو تَـحفُّظٍ في مناجاة حبيبته -، فهل يجوز، بعد غيابه، نَشْرُ هذا العُـري على الناس؟

وإِذا صحَّ هذا الكلامُ على رسائل الحب وما فيها من حضورٍ افتراضي ثالث، فماذا عن شِعر الحب وفيه “حضورٌ” واقعيٌّ فعليٌّ هو مجموعُ قرَّائه؟ وهل يبقى الشِعر حميمًا في قمَر الـخلَوات إِذا جاوز سرُّه العاشقَ وحبيبتَه إِلى شمس القرّاء؟

هل البوحُ في رسائل الحب يُـخفِّف من وحي القصائد؟ هل ينسحبُ الشِعر من قصائده الظرفية إِذا حلَّت مكانها رسائلُ الحب الـمـتـتـالية؟ هل حرارةُ الشغَف والولَه والولَع في الرسائل تَضعُف حين تَظْهر في القصائد؟

وأَين يكونُ الشاعرُ أَصْدَق: في رسالة حبه إِلى حبيبته وبينهُما الورَق؟ أَم في قصيدته لديها وبينهُما كلُّ الناس؟ أَم في بَـوحِهِ لها في لحظةِ هَـمسٍ أَو عناقٍ وليس بينهما سوى تَــوق الشفاه؟

تقول الحبيبة: “الحبُّ لا يُلغي الشِعرَ بل يتجاوزُ جَـميع الدُرَب ويُـمازجُها. القصيدةُ كائِنًا مستقلًّا لا حياةَ روحيةً لها بدون الحب. قد تحيا جسديًّا إِنما إِلى حين، أَما خُلُودُها ففي الحب. والشاعرُ يعيشُ أَيامَه بكلماتٍ، قصائدَ أَو رسائلَ، يكوِّنُـها الحب، ينضَحُها، ويُسيِّرُها كما يشاء”.

وإِذا الكلماتُ تنضَح من الحب، فلا افتراضَ مُسْبَقًا أَين تُزهر قبلاتُها: على ورقة الرسالة أَو على هُدْب القصيدة.

ولا افتراضَ مُسبَقًا لـمَن سيُولد في اليد: شيطانٌ أَم مَلاك؟

ولا افتراضَ مُسْـبَـقًا مَن يُنقِذُ القُبْلةَ من الشيطان.         

هـنـري  زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib