مع نهاية هذا الأُسبوع يُقفِل معرض الكتاب الفرنكوفوني أَبوابه على دورته الخامسة والعشرين وموضوعها هذا العام “الثقافات الرقمية”. وإِذا الصفة (رقمية) تَنعت التسمية (ثقافات) وتكون في خدمتها، فالتسمية تشمل دُرَبًا وحقولًا وميادينَ دخلَها العصرُ الرقميُّ فجرًا جديدًا أَشرَق على أَبناء جيلٍ جديدٍ وُلِدوا معه ونَشأُوا عليه، يكادُون لا يعرفون إِلَّاه، ويتعاملون مع جيلنا على أَنه ماضٍ لا طائلَ من التوقُّف عنده أَو التشَبُّه به، فإِيقاعُهم غيرُ إِيقاعِنا، ووسائلُهم ووسائِطُهم غيرُ ما كان لنا من نهجٍ في حياتنا.
أَهي قطيعتُهم عنا؟ طبعًا لا. بقينا على نهجنا حتى غروبِ عصرنا وشُروقِ نهجهم الاستهلاكي التواصُلي التفاعُلي عبر سَيلٍ من تطبيقاتٍ إِلكترونية رَقمية تتيح لهم التعاملَ معها وتطويرَها وتحويلَ الـمتَّبع قبلهم أَشكالًا جديدةً تُذهِل إبداعاتُها بـما فيها من سباقٍ مع عصرهم وزمنهم، والابتعادِ تلقائيًّا عن عصرنا وزماننا.
لا فصلَ حادًّا هنا بين عصرهم وعصرنا. فالكتابُ الرقميُّ لا يلغي الكتابَ الورقيَّ، بل هما في حوار متواصل وتكامُل مستمر، يتحاوران، يتفاهمان، يستفهمان. واحدُهما مغايرٌ الآخَرَ، إِنما كلاهُـما يُسهِم في بناء الحضارة الجديدة الطالعة من الفُضُول العلميّ والخيال الخلَّاق. إِنه “الـمدى الرقميُّ” اللامحدود لكن التناغُم حاصلٌ بين الورقيّ والرقميّ. إِنه التناغُم بين الأَجيال في تسليمٍ وتسلُّمٍ متراشِحَيْن بين عصرٍ وعصر. إِنه عصفورُ النار الحاملُ شعلتَه بين الورقيّ والرقميّ.
الثقافةُ غايةٌ، الرقمُ أَداة. كلُّ ثقافة تعبر الأَجيال بأَدوات عصرها. والتكنولوجيا الإِلكترونية اليومَ بلغَت مستوَياتٍ يَلهثُ خلفَها عصرُنا محاولًا استيعابَها فلا يأْسرنا البقاءُ في يومنا إِن لم نُـجَارِها “رقميًّا” إِلى غدنا. فالكتاب بات رقميًّا، والبثُّ التلفزيوني رقميًّا، والجريدة رقمية، والهاتف الـخَلَوي رقميًّا، والتصوير رقميًّا، والتواصُلُ السمعيُّ والبصريُّ رقميًّا، والتعدادُ يطُول ويطَال معظم نهجنا اليومي.
طبعًا لن يزول الكتاب الورقيُّ مهما تخلَّف عن اللحاق، ومهما علَّى الكتابُ الرقميُّ في أَجواء المستقبل. وسيبقى بيننا (إِلى متى!؟) مَن يفضِّل قراءتَه مطبوعًا بين يدَيه، فيما الجيل الجديد يقرأُه بين يديه على شاشة لَوحِهِ الذكيّ. لكن إِيقاعَ الورقيّ أَمسى بطيئًا حيالَ سرعة الرقميّ الذي يحملُ قارئَه في ثوانٍ برقيةٍ إِلى أَيِّ بحثٍ عن كلمة، عن عنوان، عن معلومة، عن سؤَال يوفِّر فورًا جوابَه اللوحُ الذكيُّ بين يديه، بينما على قارئ الورَقي الانتقالُ جسَديًّا للبحث في كتاب آخَر أَو مرجع آخَر أَو الذهاب إِلى مكتبة أَو مقام كي يقطف جوابًا يكون قطَفَه جيلُ الرقميّ “غُوغْــلِــيًّا”في لحظاتٍ وميضة.
نحن اليوم نعيش في عصر أَولادنا الذين (بالإِذْن من جبران) “ليسوا أَبناءَنا بل أَبناءُ عصرهم”: لَــهُـمُ الحياة، ولنا أَن نتبنَّى إِيقاعَهم لأَن إِيقاعَنا يسجُنُهم في بُــطْــئِــنا، وخطواتُ الحياةُ لا تنتظر سلحفاة الأَمس.
هـنـري زغـيـب