في تاريخ الآداب والفنون مبدعون ارتبطَ بعضُ نتاجهم بتشكيلِه في مقهى، أَو بعضُ سيرتهم بِـــتَــرَدُّدِهِم إِلى مقهى، حتى انتمَت شهرة المقهى إِلى مَن كان يجلس فيه أَو يكتب أَو يلتقي أَصدقاءَه دَوريًّا. وفي تاريخ بعض المقاهي كرسيٌّ معيَّنٌ كان يتَّخذه شاعر، أَو طاولةٌ محدَّدة كان يجلس إِليها فنان، أَو زاويةٌ خاصة كان ينتحي فيها مبدعٌ مع كوكبة زملائِه والأَصدقاء. وتكريمًا هذه الظاهرةَ الأَدبيةَ، قد تَظهر على مدخل المقهى لوحةٌ أَو لافتةٌ أَو بلاطةٌ تُشير إِلى اسم مُبدعٍ شهير كان يرتاد هذا المقهى أَو يكتب فيه.
وفيما لا قدرةَ لأُدباء على الكتابة تأْليفًا إِلَّا في جَــوٍّ مقفَل وفي طقوسٍ خاصة، لأُدباء آخرين طقوسٌ أُخرى، منها الكتابةُ في ضوضاء مقهى، عازلين انتباهَهم عمَّا وعمَّن حولهم.
في كتابٍ قرأْتُهُ أَخيرًا عن تاريخ الـمقاهي الأَدبية، أَنَّ أَقدم مقهى أَدبـيّ في العالم يرقى إِلى القرن السادس عشر، في اسطنبول سنة 1555، وأَخذَت الظاهرة تنتشر تباعًا إِلى دوَل أُوروﭘـا فَسائر البلدان.
وغالبًا ما يـبات المقهى الأَدبي “مكتبًا” للأُدباء أَو منتدًى أَو حلقةً أَو ناديًا أَو منبرًا لإِطلاق التيارات أَو التصاريح أَو الحمَلات الأَدبية. وأَحيانًا كانت المقاهي في حيٍّ واحد من المدينة أَو في شارعٍ واحد، ولـكل مقهًى كوكبةُ أُدباء تَسِمُهُ، فيما كوكبةٌ مقابلةٌ تَسِمُ مقهًى آخر. وكم نهضةٍ أَدبية سجَّلَت انطلاقَها من مَقَاهٍ دخلَت تاريخ الأَدب، فلا يُذكَر أَديبٌ أَو شاعرٌ إِلَّا ويُذكَر معه المقهى الذي كان يرتاده، أَو كان يقصدُهُ رُوَّادُ أَفكار طليعية وحركات ثورية من ذَوي “الرؤُوس الحامية”.
يَـحضرني هنا مقهى “ﭘـروكوپ” في ﭘـاريس Procope) – تأَسَّس سنة 1686 ولا يزال حتى اليوم). كان ملتقى أُدباء ومفكِّرين رُوَّاد، بينهم موسيه، ﭬـرلين، روسُّو، ﭬـولتير، ديدرو، ومنتِسْكيو الذي كتبَ في مذكِّراته أَنّ ذاك المقهى “يَــبُـثُّ الأَفكار لِـمن يُـحسِن تَلَقِّيها، فلا يَـخرج منه إِلَّا وفي رأْسه أَفكارٌ جديدةٌ لـم تَكُن لديه ساعةَ دخَل المقهى”.
لبنان كذلك عرف هذه الظاهرة في حقبة جليَّة من القرن العشرين، وسجَّل تاريخُ الأَدب أَسماءَ مَقاهٍ ومطاعمَ كان يرتادُها أُدباء وشعراء لبنانيون، ويستقطبون إِليها أَصدقاءَهم العرب شعراء وأُدباء وروَّادَ فكْر.
على أَن هذه الموجةَ المباركة انْـحسَرت اليوم لــ”تَـجتاح” المقاهي موجةُ الأَراكيلِ القاتلةُ الرؤُوس والأَفكار، حتى بات متعذِّرًا دخولُ أَحدها من دون الإِصابة بدُوار دُخانها المسموم. ومع أَن بين أُدباء الأَمس مَن كانوا يدخِّـنون السكائر والأَراكيل، إِلَّا أَنَّ هذا لم يكن، كما اليوم، دُرجَةً أَفرغَت المقهى من نُـخبة الأَدب، وحوَّلَــتْــهُ مرتعَ روَّادٍ ينفخُون التسطيح الفكري مع دخان أَراكيلهم الفارغ من كل فكْر.
وشتَّان في “الرؤُوس الحامية” بــين رؤُوس الأُدباء و… رؤُوس الأَراكيل.
هـنـري زغـيـب