“أَزرار” – الحلقة 1049
حين يلامس الـمَغْنى مَعْنى الحياة
“النهار” – السبت 25 آب 2018

 الذين حزِنوا الأُسبوعَ الـماضي لوفاة أَريتا فْرنْكْلِن (25/3/1942 – 16/8/2018)، في طليعتهم الرئيسان الأَميركيان الحالي ترامـپ والسابق أُوباما وآلافُ مَن ذرفوا عليها حبرًا ودُموعًا، لم يتفجَّعوا فقط لـغياب “ملكة السُول” (نَـمط إِيقاعي أَفريقيّ من عائلة الجاز والبلوز) ولا لـمُغنّيةٍ صاحبةِ صوتٍ أُعجوبيّ، بل أَكثَرَ أَكثر: بَـكَـوا شخصيةً فريدة هزَّت الوجدانَ الشعبيَّ منذ نصف قرنٍ بقضايا إِنسانيةٍ صامتةٍ مَـحفورةٍ في أَذهانهم، أَوقظتْها أَريتا بشغَفٍ على الـمـلإِ الأَوسع أَغنياتٍ حرَّكَت وضْع الـمرأَة والتمييز العنصري والعِرقي. لم تُـؤَدِّها بصوتها الساحر وحسب بل في شخصيتها الناهضةِ بالنَص والـميلُوديا، وهُما الأَساس، وبِرُوحها التي كانت ملتزمةً بأَوضاع مواطنيها الأَفرُوأَميركيين، وما عانَـوه من عذاب دفين. هكذا امتدَّ التفاعل من جـماليا صوتها إِلى مضمونه الـمخترِقِ الوجدان.

كانت أَريتا فْرنْكْلِن قضيةً في ذاتها تغنّي قضية. كانت هويةً لأَبناء شعبها في أُغنياتٍ بسيطةٍ إِنما عميقة، كما كانت في حياتها الشخصية بسيطةَ التصرُّف، عميقةَ الوقْع، يزورها الناس في بيتها فتفتحُ هي البابَ وتجالسهم وتُصغي إِليهم، فلا “مدير أَعمال” ولا “مكتب إِعلامي” ولا مرافقون عرضْحَاليُّون ولا حَرَس ولا عَسَس ولا سيارة داكنة الزجاج، ولا عمليات تجميل وتحويل وتبديل وتحليل.

هذه امرأَةٌ غنَّت بإِحساسها الأَعمق والتزامها الإِنساني، وطالت أَحاسيسَ الناس فاعتنقوها أَيقونتَهم الإِنسانيةَ الحيَّة. غنَّت الحالات الصعبة، وكان في صوتها صدى مشاعرهم الدفينة وضعًا وقهرًا وتمييزًا. موضوع أُغنياتها كان الصوت، وصوتُها كان صرخةَ الموضوع.

في مقالٍ غَداةَ وفاتها نشرَتْه جريدة “شيكاغو تريــبــيُــون” بعنوان “انطفأَ صوت أَميركا” جاء: “موتُ أَريتا فْرنْكْلِن ينبِّهنا إِلى أَن كبار المغنِّين ليسوا مُـجرَّد أَصواتٍ في حياتنا، بل غنُّوا حياتَنا وأَغنَوها وحَـمَلوا قضايانا في أُغنياتهم”.

وإِنها كذلك أَريتا في أُغنياتها، مثل: “تجعلُني أَنتَ أُحسُّني امرأَة طبيعية” (أَبكَت الرئيس أُوباما حين غنَّـتْـها أَمامه في “كيندي سنتر” سنة 2015)، وأُغنيتها الخالدة “إِحتَـرِمْني”، إِلى مئَاتِ أُغنياتٍ حرَّكت وجدان شعبٍ كامل وجَدَ فيها صوتَهُ، وراعيةَ مواهبَ فتيةٍ في طليعتها الخالدةُ الأُخرى ويتْني هيوستن.

هو هذا ما يميِّز الأَداءَ الحاملَ في أَوتاره مضمونًا أَبعدَ من مُـجرَّد البَوح وبثّ اللواعج والمخاطبات والتغَــزُّل السطحي، بلوغًا إِلى قضايا الشعب وهمومه وتطلُّعاته الإِنسانية والوجدانية، فتُصبح الـمُغَـــنِّــيةُ “ديـﭭـا” حقيقيةً بـصوتِها الفريد وأَدائِها كلامَ الأُغنية بإِحساسٍ صادقٍ غيرِ مفتَعَل فيدخُل القلبَ قبل السَماع.

الأُغنية رسالةٌ قبل أَن تكون فنًّا، وفي هذه الرسالة (البعيدة طبعًا عن الوعظ والخطاب الوطني أَو السياسي) جميعُ عناصر التأْثير الشعبي، تَزرعُه في الناس صاحبةُ صوتٍ خارقٍ تَنقُل بِــــإِحساسها كلامًا خارقًا وميلوديا خارقة، فتكونُ صاحبةُ الصوتِ انتظارًا وأُمنيةً، وتكون رجاءَ شعبِها الـمُكَرِّسِ فيها أَيقونتَه الخالدةَ الـمفْردةَ الواحدةَ التي لا شبيهَ لها في حاضر زمانه.     

هـنـري  زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib