في اشتغالي حاليًّا على وجهٍ جديدٍ من جبران، سيرةً ونتاجًا، وأَمام باقةٍ من أَقدمِ مقالاته الأُولى (1903)، لفتَتْني فيها مغايرةُ تفكير تلامسها بساطة تعبير، حتى إِذا صدَرت لاحقًا في “دمعة وابتسامة” لم يغيِّر فيها جبران حرفًا، وهي شَجاعةٌ منه مصدرُها الثقة.
يستوقفني هنا موضوع الكتابات المبكِّرة. هل هي دائمًا صالحةٌ للنشر لاحقًا؟
من المبدعين مَن “يــبدَأُون” ناضجين، فلا حاجة إِلى إِعادة النظر لاحقًا في نتاجهم لدى نشْره.
هنا العلامة: بين الاختمار والاختبار مع تقدُّم العمر، وبين نضج مبكر وتجلِّيات باكرة لا علاقة لها بتقدُّم العمر. العمر ليس معيارًا وحيدًا يُكسب المبدع حُكْمًا خبرةً فـــ”ينضج” و”يكتسب” ويختمر نتاجه؟
مَن يبدأُون “ناضجين” يــبقى نتاجُهم صالحًا لزمنهم وما يليه. الشاعر الفرنسي أَرتور رِمْبو كسَر قلمه عند بلوغه العشرين وما زال شعرُه حتى اليوم ساطعَ التأْثير في الشعر الفرنسي. والمفكِّر بليز ﭘـاسكال توفِّـي عن 39 عامًا تاركًا في كتابه “الأَفكار” تأْثيرًا بالغًا في الفكْر العلْميّ والفلسفيّ. وﭬـيكتور هوغو بدأَ ينشر في العشرين ولم يندَم على سطرٍ واحدٍ في ما بعد. والعبقري الـمُذهل موزار بدأَ التأْليف منذ سنٍّ مبكِّرة جدًّا (في الثانية عشْرة)، سكتَ قلبُه في الخامسة والثلاثين وما زالت موسيقاه اليوم نابضةً في عصرنا وباقيةً لكل عصر.
الموهبة لا تنتظر العمر الناضج. تولد فورًا ناضجة فلا حاجة إِلى إِنضاجها إِلَّا في بعض الشكل لا المضمون.
غياب الموهبة يظل مَـمحوًّا حتى في خريف العمر، لا تقَدُّمُ السنّ يُفيدها ولا خبرة السنوات. مَن لا موهبة لديه لن “يكتسبها” مع السنوات، ويبقى نتاجه لفظيًّا مسطَّحًا باردًا لا إِدهاش فيه.
السنوات جسْرٌ إِلى الاختبار والاختمار. الموهبة الحقيقية سرٌّ لا مفتاح له. تولد مع اليوم الأَول، تُنْتِجُ في السنوات الأُولى ولا تنتظر مراكمة السنوات كي تتجلى أَكثر. السنوات تزيد الموهبة تجليًّا فتُصبح موهبة أَكثر. هي الرصانة تبدأُ فتيةً ثم “تَـتَـرصَّن” أَكثر في رجاحة تزيدُها توهُّجًا.
العمر قد يضيف رجاحةً لِـمَن لديه أَصلًا بذُور الرجاحة والرصانة والثقة. لكن العمر لا “يعطي” الموهبة ولا يغذِّي “النضج” إِن لم يكن هذا موجودًا منذ البدايات.
ما سرُّ “الموهبة”؟ كيف نقرأُها تفسيرًا وتقديرًا وتبريرًا؟ سرُّها نبوغ يسطع نتاجه منذ البواكير، يُشير إِلى جديد غير مأْلوف، وحين يغيب، يغيب معه السر.
الموهبة شمس تُشرق مع الفجر الباكر، تُضيْءُ عالـمًا واسع الفضاء، وعند غُرُوبها لا يغيبُ سوى وجهها أَما وهْجُها فَيَبقى.
السر، كلُّ السر في الموهبة، هو بين الوجه والوهج: يولد الوجْه وَهَّاجًا منذ الـمَطالع، يسطع وهْجُه في بواكير وُثْقى، وعند الغُرُوب لا يغرُب سوى الوجه، أَما الوهْج فيبقى ساطعًا طويلًا طويلًا بعد الغروب.
هـنـري زغـيـب