فيما الوسطُ الفنيُّ اللندنيُّ العالي منشغِلٌ هذه الأَيام بأَصداء العمل الاستعراضيّ الـموسيقيّ الكبــير “الأَجنحة الـمتكسرة” بِـإِعدادٍ ذكيٍّ موَفَّقٍ عن رائعة جبران بعد 106 سنواتٍ على صُدورِها كتابًا في نيويورك (1912)، ينشغل الوسط الفنيُّ اللبنانيُّ بالصراصير.
في التفصيل من لندن: بين الأَوَّل والرابع من هذا الشهر، في “الـمسرحِ الـمَلَكيّ” الشهير في وِسْـتْـمِـنْـسْــتِــر، ثالثِ أَقدم مسرحٍ في لندن (تأَسَّس سنة 1720 ويتَّسع لــ888 مقعدًا في أَربع طبقات)، شاهدَ جمهورٌ كثيفٌ من نحو 3500 مشاهدٍ في أَربعة أَيامٍ قصة “الأَجنحة المتكسِّرة” في إِعدادٍ موسيقيٍّ غنائيٍّ للبريطاني (من أَصل لبناني) نديم نعمان والقَطَريَّة دانَا الفردان، بِإِنتاجٍ وإِخراجٍ للإِيرلندية بْرونا لاغن، وتوزيع أُوركسترالي لعازف الـﭙـيانو الشهير جُـو ديـﭭـيسُن.
أَبرزت الصحافة البريطانية هذا العمل في صفحاتها الأُولى، ونشَرَتْه وكالاتُ الإِعلام العالــمية، وصرَّح نديم نعمان لـلـ”بي.بي.سي” أَنه زاوج في إِعداده بين النص ومقاطع تعريفية بسيرة جبران، قائلًا إِنه أَراد “بـهذا العمل إِعطاءَ الغرب جُرعةً من جبران، لأَن الغرب في حاجة إِلى سَـماعه فِكْرَ رجُلٍ يُؤْمن بالحب والـمسُاواة بعيدًا عن كل انتماءٍ ديني أَو سياسي”. ولِـجهْله العربيةَ، اعتمدَ على ترجمةٍ قديمةٍ للنص العربي وَضَعَتْهُ الكاتبة الأَلـمانية هِلِن زيْـما”.
في التفصيل من بيروت: بعد هذا النجاح المسرحيّ الساطع، وأَصدائه الصحافية والإِعلامية في لندن، فتَّشْتُ في صحافة بيروت عن صدًى لهذا العمل اللبناني الأَصل باتَ عالـميًّا، فوجدتُ الصحافةَ اللبنانيةَ غائبةً عن تغطية الحدث، إِلَّا إِشاراتٍ خجولةً عابرةً في زوايا ثانوية من بعض الصحف تعلنه نقلًا عن الوكالات الأَجنبية.
رحتُ أُفتِّش في وسائط التواصل لعلِّي أَجدُ مَن عَلِمَ بهذا العمل وعمَّمه من موقعه على أَصدقائه كي تتعمَّم الفائدةُ بواسطة هذه الوسائط السريعة الانتشار، فإِذا بي أَجد جَحْفلًا من… الصراصير. ذلك أَنَّ وسائط التواصل في بيروت كانت منشغلةً بتوزيع جَدَلٍ سخيفٍ عن اتِّـهامِ مُغَــنِّــيَــةٍ لبنانيةٍ إِعلاميًّا لبنانيًّا بــ”الصرصور”، هو يرُدُّ عليها وهي تَرُدُّ على الرَدّ، وجـمهور الــمُغَـــنِّــية – صار اسمه الــ”فانز” من غير شر – يَكيل للإِعلاميّ عباراتٍ من قاموس الصرصور ومشتقَّات الصراصير.
هكذا نحن إِذًا، وهنا نحن من مستوى الفن عن لبنان في العالم، ومستوى الفن عن لبنان في لبنان.
في لندن عملٌ مسرحيٌّ موسيقيٌّ غنائيٌّ مُشَرِّفٌ لبنانَ وجبران، تـحتشدُ له كوكبةٌ عاليةُ الاحتراف من مـمثلين وموسيقيين وكورس وجيش عاملين في الكواليس، وفي بيروت تَشاتُـمٌ بلُغة الصراصير تَـحتشد له جمهرةٌ من الزجَّالين والـمُهرِّجين والـــ”فانزيين” بكلِّ جهلٍ وأُميّةٍ وانحطاطٍ على مِنصَّات تَوَاصلٍ، هذا مستواها وهذا مستواهم. وبين لندن وبيروت، الوسَط ينضح بـما فيه.
هنيئًا لـجبران غافيًا هانئًا بعيدًا في دير مار سركيس على تلة بشرّي، وهنيئًا لعاصي ومنصور الرحباني نَومُهُما السعيد البعيد على تلة حارة الغوارنة حدّ أنطلياس.
هذه صورةٌ بشعةٌ عن معظم الـمستوى الفنّيّ اليوم في لبنان، على وسائِطِ تَوَاصُلٍ سخيفةٍ تتباهى بِتَنَاقُل هذا الـمستوى في لغة الصراصير.
هـنـري زغـيـب