“أَزرار” –  الحلقة  1048
… حُلمًا بالواقع الجديد
“النهار”  –  السبت 18 آب 2018

       حين صدَرَ في ﭘـاريس العددُ الأَوَّل (تشرين الأَول 1961) من مجلة “ﭘْـلانيتْ” (Planète) لاقى رواجًا سريعًا (5000 نسخة، وخمس طبعات متتالية له في أَسابيع قليلة). بعد أَشهُر بَلَغَ انتشارُها 100 أَلف نسخة للعدد الواحد، لأَنها جاءَت جديدةً في طرحها ومواضيعها وكُـتَّابها، وفي إِطلاقها أَسماءَ جديدةً، على القرَّاء خصوصًا والأَدب الأُوروﭘّــي عمومًا، أَبرزُهم الأَرجنتيني الـمغمور حَــتَّــئِــذٍ خورخيس لويس بورخيس الذي تَرجمَت له إِلى الفرنسية قصصًا خياليةً نشَرَتْها تباعًا، أَبرزُها رائعته “مكتبة بابل”، وأَسَّست المجلَّة موجة “واقعيةً جديدة” تطرَّفَت حتى بلغت أَدب الخيال أَو الوهم أَو حتى الاستيهام، ما جعل للمجلة ذاك الانتشار السريع الواسع، إِلى أَن استهلكت جديدَها وأَصداءَها الصاخبة وتوقَّفَت في عامها العاشر (آب 1971 بعد 64 عددًا).

      مـحورُ الـموضوع هنا، وهو كان جديدَ تلك المجلة وتَــيَّــارها الأَدبي: تدميرُ الانتماء إِلى الواقع، هَربًا من واقعيَّتِهِ بَـحثًا عن تَـجميله في خيالٍ أَو حتى استيهامٍ افتراضيّ، كان خروجًا من الواقعية الجامدة للدُخول إِلى عالَـم الوهم التجميليّ التَخيُّليّ لعلَّ فيه إِجاباتٍ عن أَسئلةٍ تُـهوِّم في البال ولا تجدُ بابًا ينفتح لها.

      لعلَّ هذا ما كرَّس رواج ذاك النوع الأَدبي في فرنسا وخارجها. كان جديدًا ديناميًّا حَـرَّك البُحيرة الآسنة أَو الغافية، وأَثَّـر حتى في تيارات فلسفية اعتمدَتْه كُـليًّا أَو جُـزئيًّا في أُطروحتها فترتئِذٍ.

      هي مقاربةُ الحقيقة من زاويةٍ أُخرى: استيهام العقلاني خلاصًا من الراهن اليومي. أَليس هذا، بعد نصف قرنٍ، ما يَـحدُث اليومَ في الهرب إِلى وسائطِ تواصُلٍ يُـحاول مستخدموها كسْرَ واقعٍ يهربون منه إِلى التعبير كيفما اتفق، كيفما يَـحلو لهم، خارج قواعد اللغة والحروف والأُصول والأَعراف اللغوية، في كتاباتٍ هاربةٍ من ضَوابط الـمأْلوف والـمُتَّـبَـع والتقليدي ولو كان سليمًا وصحِّــيًّا.

      هو الدخولُ في العدَم حُلمًا بالخروج منه إِلى واقعٍ جديدٍ يكسر الـمتتالياتِ الـمنتظِمةَ في اليوميّ، ويَـخرجُ من إِطار الاتِّباع ليعانق وَهْـمًا، افتراضيًّا في البدء، عَـلَّه يَـحُطُّ عند ميناءِ شاطئٍ جديد.

إِنه اللاواقع يُعاندُ العصر، بالانتقال من الواقع الثقيل إِلى الوهم الجميل، عاريًا من عباءَات الـمفروض، لابسًا “جينْزات” الافتراض.

      إِنه تدميرُ الفكر الواقعيّ وبناءُ وسائطَ عصريةٍ (الـ”فايس بوك” إِحداها) تتفلَّت من كلّ رقابة، تتكلَّم لغةً غريبةً في كلامٍ غريبٍ على منصَّات حُــرَّةٍ متفَلِّتةٍ من كُلّ قيد، كأَنها تستحضر من زَمَن الأَساطيرِ القديمة زمنًا جديدًا بَـحثًا له عن والِدَيْن وأَهلٍ وأَقاربَ فلا يكون تـــيَّــارًا هجينًا مكتومَ القيد مَـجهولَ الإِقامة.

      هكذا نَـحنُ اليوم: مُـجتمعٌ بكامله يتحوَّل من حالٍ إِلى حال، باحثًا عن صورَتِهِ في وَجْه بُـحيرةٍ جديدةٍ لعلَّه يرى فيه “واقعًا جديدًا” يُناسب تَــغَــيُّراتِ العصر، ويؤَسِّسُ لــ”ﭘْـلانيتْ” جديدة تكونُ في خدمة “أَدَبٍ جديد”.

هـنـري  زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib