في 30 كانون الثاني 1726، خلال عرضٍ مسرحيّ لـ”الكوميدي فرَنْسيز”، وكان “فارس روهان” الكونت شابو (Chabot) حسودًا من استِئْناس أَدرِيــيــنَّـا، بطلةِ المسرحية، بالكاتب ﭬـولتير، التفتَ إِليه الكونت سائلًا بِنبرةٍ متعالية: “أَأَنت ﭬـولتير؟ أَم فرنسوا ماري آرُوِيه؟ ما هو اسمك”؟ فأَجاب ﭬـولتير بسخريته القاسية: ” ﭬـولتير. حين يبدأُ اسمي ينتهي اسـمُك”. وفي روايةٍ أُخرى أَنهما الْتقَـيَا في عشاءٍ، فانتهَرَهُ الكونت: “مَن هذا الذي يَــتجرَّأُ على مُـخاطبتي بصَوتٍ عالٍ”؟ فأَجاب ﭬـولتير: “كاتبٌ لا يحمل اسمًا عاليًا لكنه يُشَرِّفُ اسمه عاليًا”. لم يحتمل الكونت الإِهانة فأَرسلَ زُمرةً من رجاله ترصَّدوا ﭬـولتير وأَشبَعوه ضربًا.
في 16نيسان 1726 صدَر تقريرُ الشرطة في متَّهمًا الكاتبَ بِــــ”التهَجُّم الوقِح على حضرة الكونت”، وصباح 17 نيسان كان ﭬـولتير سجين “الباستيل” أُسبوعَين، حتى 5 أَيار إِثْر كتابِ استرحامٍ خرَجَ بعدَه مَنفيًّا إِلى إِنكلترا.
طبعًا غاب ذاك الكونت في نسيان التاريخ فلم يَـعُد يُذكَر إِلَّا بحادثةِ مُشادَّته مع ﭬـولتير. وحين أَصدر نيتشه كتابه “الإِنسانوية” سنة 1878 أَهداه “إِلى ﭬـولتير في الذكرى المئَوية الأُولى لوفاته”، مُشيدًا بــ”الفكْـر الحر”، على أَنه “سِـمَـةُ الذين يُفَكّرون بشكْلٍ مُغايرٍ عن النمَط الاتِّباعي، مُـختلِفٍ عن السائِد المأْلوف، متفرِّدٍ عـمَّا في مُـحيطه ومجتمعه والنظام القائِم”.
يأْخذُنا هذا التذكار إِلى كلِّ نظامٍ يَــتَّبع التوتاليتاريا، أَو شبيهًا بها مغلَّفًا بالديموقراطيا: لا يَـحتمِل الحاكمُ فيه رأْيًا حُــرًّا ولا تفكيرًا حُــرًّا، فــيُرهِب الفكْر الحُر والمفَكِّرين الأَحرار بأَنواع التهديد والتنديد، لتطويعِ كُلِّ مَن ليس منتظمًا “في الصف”، كلِّ من لا يَـحمل مبخرَةً لتمجيد الحاكم، كلِّ مَن يقول كلمةً أَو يكتب كلمةً خارجَ أُسلوب القطيع الأَغنامي الخانع أَمام عصا الحاكم.
هكذا: كلُّ مَن يتعرَّض للحاكم، ولا يكتب بِـحِبر الحاكم، يساق إِلى القضاء فالسِجْن أَو المحاكمة بتهمةٍ هي مراتٍ واضحةٌ وأُخرى ملفَّقة، لتطويع المفكِّرين الأَحرار وتَـخنيعِهِم وتركيعِهِم كي يَعودوا فيَسيروا في “ركاب القافلة” مَدَّاحين مُبَخِّرين مُـحابين دجَّالين صاغرين بدون رأْي ولا حرية، فينشرح صدر الحاكم ولا يرسل إِليهم زُمرته وزَبانيته وجواسيسه.
وهذا هو الأَمر في كل عَهد ومَهد، حين الحكَّام الظلاميُّون يدَّعون القوَّةَ بالقوَّةِ لا بالعدل، ويتمنطقون بالظُلْم لا بالحِكمة، ويُرسلون عَسَسَهُم بين الناس آذانًا جاسوسَةً في الظلام. ولكنَّ الظلامية لا تعوم، والظلْمَ لا يقوم، والظلامَ لا يدوم. ومهما عَلَت أَسوار “الباستيل” في الوطن، في أَيِّ وطن، لا بدَّ أَن يَخلَعَ بوَّابَــتَــه الأَحرارُ ويَـخرجوا إِلى الحرية، حريةِ القَول والفكْر والكتابة، فيقعَ الحُكَّام السلطويون في ليل النسيان وتُشرقَ شمسُ الأَحرار ساطعةً مُشرقةً على كلِّ زمان ومكان، كما وقع “فارس روهان” في عتمة التاريخ فلا يُذكَرُ اليوم إِلَّا بتفاهة شِجَاره البارد مع ﭬـولتير الخالد.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib